هناك بلا شك أسباب كثيرة لعزوف التونسيين عن المشاركة في انتخابات المجالس المحلية التي جرت الاحد الماضي وفي اغلب المناسبات الانتخابية منذ انقلاب 25 جويلية نحن مرة اخرى بإزاء مقاطعة حوالي 90 بالمائة من المواطنين لها وسط لامبالاة عامة واستهانة بالعملية الانتخابية التي تحولت منذ الاستفتاء على الدستور الجديد الاحادي إلى يوم انتخابي بلا انتخابات ولا أحزاب ولا منظمات وطنية ولا مجتمع مدني ولا حملات انتخابية ولا أفكار ولا مشاريع ولا إعلام حر بل هي عملية شكلية بائسة لا يرجى منها غير تركيز مؤسسات لم يعد وجودها أو عدم وجودها يعني أحدا فليس لها من دور غير فرض مشروع الرئيس في ما يسميه بالانفجار الثوري القائم على البناء القاعدي.
لقد أدى هذا التصور الفردي الذي لم يشارك في وضع قواعده النظرية ولا في تجسيده احد إلى إلغاء شبه كلي لكل الأجسام الوسيطة من أحزاب ومجتمع مدني ومنظمات وطنية في ظل استيلاء السلطة على وسائل الإعلام وتوجيهها ووضع أعوانها على رأس هذه المؤسسات وفي برامجها السياسية لقصف عقول المواطنين بالدعاية للنظام وخياراته . فالبدعة التونسية بخلاف كل بلاد العالم شاءت أن تجري الانتخابات في ظل صمت حزبي وسياسي.
كيف نتصور انتخابات دون أحزاب ؟ وماذا نتوقع من نسبة مشاركة فيها إذا كانت أكثر الأحزاب خاصة قاطعتها كما قاطعت مسار 25 جويلية برمته ومنذ البداية .مع العلم ان قادة الكثير منها هم اليوم في السجن . فخمسة من الأمناء العامين او الرؤساء لهذه الأحزاب الحاليين او السابقين رهن الاعتقال منذ 8 أشهر بالنسبة للبعض منهم دون محاكمة ولا اي تقدم في التحقيق حول التهم المنسوبة اليهم ، عدا أحزاب قليلة أكثرها مجهرية كان الوقوف مع قيس سعيد لديها لا يبرره غير أحقاد أيدولوجية معروفة قادتها إلى تبرير الاستبداد والانخراط فيه ودعمه رغم أن من بينها من انتبه في المدة الأخيرة مثل حركة الشعب إلى مخاطر الانقياد الأعمى وراء اختيارات الرئيس وكيفية تسييره للبلاد رغم احتقاره لمعارضيه ومناصريه سواء بسواء.
لا شك أن لعزوف التونسيين عن المشاركة في التصويت أسبابا كثيرة ولكن من الأكيد أيضا أن هذا النظام الذي اختاره قيس سعيد وحده وفرضه على التونسيين دون أي حوار مجتمعي هو من الأسباب الجوهرية وراء هذا العزوف الذي قارب ال 90 بالمائة في انتخابات الاحد الماضي ، والذي لا نجد له مثيلا في أي بلد من بلدان العالم.
الأحزاب وهج المقاومة و وقود السياسة
يبشر رئيس الجمهورية منذ تسلمه السلطة وخاصة بعد 25 جويلية 2021 بموت الأحزاب وبداية عصر الجماهير او ما يسميه بالانفجار الثوري وهو ما جعله يلغي يوم 14 جانفي2011 من حسابه والاقتصار على 17 ديسمبر 2010وجعله عيدا وطنيا . إن إلغاء الأحزاب أو تقزيم دورها في المجتمع و الدولة هو تمشّ ضدّ التاريخ والواقع فالأحزاب قادت حركات التحرّر الوطني في بلدان شمال افريقيا : تونس و الجزائر و المغرب ضد المحتل الفرنسي مثل حزب الاستقلال في المغرب و جبهة التحرير الجزائرية و حزب الشعب الجزائري بقيادة مصالي الحاج في الجزائر و الحزب الحر الدستوري بشقيه القديم و الجديد في تونس.
فعندما احتلّت فرنسا تونس واجهتها مقاومة مسلّحة لم تدم طويلا. لكن في بداية القرن العشرين بدأ المجتمع المدني التونسي يظهر للعلن و أخذت حركة المقاومة الوطنية ضد الاحتلال شيئا فشيئا أشكالا جديدة مثل حركة الشباب التونسي ثمّ تطوّرت في شكل أحزاب سياسية تقود البلاد تدريجيا نحو الاستقلال لاسيّما بعد أن أسّس الشيخ عبد العزيز الثعالبي الحزب الحر الدستوري سنة 1920 و الذي انشقّ عنه الحزب الدستوري الجديد بقيادة الحبيب بورقيبة كما تمّ تأسيس الحزب الشيوعي التونسي.
وجد المواطنون في الأحزاب سبيلا للتعبير عن رفضهم للاحتلال و وسيلة لمقاومته سياسيا و أن اقتضى الأمر المقاومة المسلحة وكان البيت الحسيني على صلة بالحزب الحر الدستوري مثل الملك الشهيد محمد المنصف باي الذي تجسمت في شخصه النزعة الاستقلالية . فالباي المنصف دون استشارة سلطة الاحتلال شكّل حكومة من بين اعضائها محمود الماطري الرئيس السابق للحزب الحر الدستوري و عندما كان أميرا شجّع والده محمد الناصر باي على استقبال اعضاء هذا الحزب.
وفي دولة الاستقلال تعاظم دور الاحزاب السياسية المعارضة التي خرجت من جلباب الحزب الحاكم وتمردت عليه فقد اعتمدت السلطة الحاكمة على حزبها أوّلا لإنشاء مؤسسات الدولة التي كان كلّ اعضائها سواء في الحكومة أو في البرلمان منتمين له و اعتمدت عليه ايضا في قمع الرأي المعارض زمن رئاسة الحبيب بورقيبة و بن علي لاسيّما من خلال لجان اليقظة فلجأ المعارضون لها الى تأسيس احزاب مستقلة عن الحزب الحاكم و من المفارقات ان اعضاء في الحزب الحاكم لم يرضوا على السياسة المتبعة من الدولة فانشقّوا عنه و أسّسوا احزاب معارضة مثل حركة الديمقراطيين الاشتراكيين و حزب الوحدة الشعبية.
ان التعلل بان الأحزاب تعيش اليوم أزمة في ظل الديمقراطية النيابية لا معنى له في بلاد وضعت قدما مترددة في التحول الديمقراطي ..لقد كان الحزب في تونس في عهد بورقيبة وبن علي أداة قمع في نظام استبدادي ولكن الأحزاب أضحت بعد الثورة رغم كل عيوبها أداة للتعبير عن مواقف سياسية ورؤى اقتصادية واجتماعية وهي مدارس للتنشئة السياسية لا محيد عنها فلا يمكن لأي مجتمع يتدرب على الديمقراطية ان يتخلى عنها.
نصلح الحياة الحزبية ولا نلغى وجودها
صحيح أن عدد هذه الأحزاب في تونس تجاوز بعد الثورة حاجة البلاد إليها حتى أضحت مجرد دكاكين مفرغة من أي محتوى سياسي حقيقي وصحيح أيضا أن أداءها في مجلس نواب الشعب خاصة قدّم صورة مشوهة عن السياسة والسياسيين وعن البرلمان عموما جراء مشاحنات وصراعات وصلت أحيانا إلى حد العراك بالأيدي كما كانت الحياة الداخلية لكثير من الأحزاب مثار نزاعات ومعارك معوية أوصلتها إلى التفتت والانقسام وتجزئة المجزأ مثل حزب النداء الذي اقسم إلى " ملل ونحل" كثيرة وانتهى الى الزوال تماما والجبهة الشعبية التي تفككت ايضا وانتهى وجودها لتعود مكوناتها الأصلية إلى عزلتها وسكتريتها وهي صورة يتحمل مسؤوليتها الجميع غير أن ذلك كان يحتاج إلى إصلاح المشهد السياسي الحزبي سواء داخل البرلمان أو خارجه لا إلى إعدام الحياة الحزبية والسياسية في سبيل مشروع لا يعرف التونسيين عنه شيئا لأنه يقام على أنقاض حياة مهما تكن عيوبها كانت تعتمد الحوار والمواجهة و تستفيد ايما استفادة من حرية التعبير وفي ظل مشروع هلامي يفرضه استبداد يتمدد يوما بعد يوم وسط خوف من السلطة وسجونها المفتوحة امام السياسيين والاعلاميين والنقابيين ورجال الاعمال بل حتى عامة الناس و انهيار اقتصادي لم يعد للتونسيين في جحيمه من هدف غير البحث عن القوت في ظروف قاسية من الفقر والبطالة واليأس .