رئيس الجمهورية في النظام الجمهوري هو رئيس الدولة و يتميّز هذا النظام أساسا بأن التداول فيه على السلطة يتم عبر انتخابات سرية و تعدّدية و حرّة ونزيهة و غير معلومة النتيجة مسبقا ، يمارس خلالها المواطنون لاسيّما في النظام الرئاسي حق انتخاب رئيس الجمهورية و حق الترشح للفوز بمنصب رئيس الجمهورية الذي ينتخب لفترة رئاسية يضبط الدستور مدّتها كما تضع الدول الديمقراطية سقفا لعدد المرات التي يمكن الترشح فيها للمنصب دستورا أو عرفا.
أمّا نظام الحكم الملكي فهو يمنح عائلة واحدة حق تقلد أحد أفرادها مقاليد رئاسة الدولة بصفته ملكا وهو نظام وراثي بين أفراد العائلة المالكة. في نظام الحكم هذا يتم التداول على السلطة مبدئيا اثر وفاة الملك فيخلفه ولي عهده الذي يكون عموما أكبر أبنائه سنا و توجد صيغ أخرى لخلافة الملك.. فالفصل الأوّل من قانون الدولة التونسية المعروف بدستور 1861 مثلا ينص على أن اكبر البيت الحسيني "هو الذي يتقدّم لولاية المملكة عند انقضاء سلفه ".
وللتذكير فقد عرفت بلادنا بعد الفتح الاسلامي الحكم الملكي و قد تداولت على سدّة الحكم كثير من الأسر استعرضها احمد بن ابي الضياف الوزير المؤرخ في كتابه" إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان " آخرها العائلة الحسينية التي حكمت بلادنا من 12 جويلية 1705 تاريخ البيعة لحسين بن علي الى 25 جويلية 1957 تاريخ قرار المجلس القومي التأسيسي إلغاء النظام الملكي و إعلان الجمهورية.
وقد وقع إحداث هذا المجلس بواسطة الأمر العلي المؤرخ في 29 ديسمبر 1955 الذي اصدره محمد الأمين باشا باي اخر ملوك تونس واسند له مهمّة سن دستور للمملكة و فعلا أعدّ المجلس مسودّة للدستور مؤرخة في 9 جانفي 1957 تنص على أن "الدولة التونسية دولة ملكية دستورية » و لا تضع الملك فوق المساءلة الجزائية فهي تنص على محاكمته ا"ذا اتهم بالخيانة العظمى من طرف ثلثي أعضاء مجلس الأمّة".
غير انه هذا المجلس لم يلتزم في 25 جويلية 1957 بصريح نص الأمر العلي المحدث له و اتخذ قرارا نافذ المفعول حالا يتمثّل أساسا في :
– إلغاء النظام الملكي إلغاء تاما
– إعلان تونس دولة جمهورية
و اسفرت اعمال المجلس أخيرا عن دستور 1 جوان 1959 الذي يؤسّس مبدئيا لنظام جمهوري رئاسي ينتخب فيه المواطنون رئيس الجمهورية . فبعد أن نص الدستور على ان رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة و دينه الإسلام فتح باب رئاسة الجمهورية للمواطن التونسي المسلم دون تمييز بين العائلات فنصّ في صيغته الأولى على ان الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية هو حق لكل تونسي مولود لأب و جد تونسيين ثلاثتهم تونسيون دون انقطاع بلغ من العمر اربعين سنة و يتمتع بجميع حقوقه المدنية.
وبيّن الدستوران رئيس الجمهورية ينتخبه المواطنون المتوفرة فيهم صفة الناخب أي الذين عمرهم عشرون سنة كاملة ( نزل بعد ذلك الى 18 سنة بموجب تنقيح الدستور سنة 2008 ) و يتمتعون بالجنسية التونسية منذ خمسة اعوام على الأقل و يكون الانتخاب عاما و مباشرا و سريا.
ضمن دستور 1 جوان 1959 لكل المواطنين حقهم في انتخاب رئيس الجمهورية و حقهم في الترشح لمنصب رئيس الجمهورية غير انه يستثني من حق الترشح لهذا المنصب المواطن غير المسلم .
و يمكن لرئيس الجمهورية المنتخب ان يظلّ في منصبه لمدة عشرين سنة متواصلة دون انقطاع فقد ضبط الدستور أولا المدّة الرئاسية بخمسة أعوام و ثانيا عدد المرّات التي يحق فيها لرئيس الجمهورية المباشر تجديد ترشّحة بثلاث مرّات متوالية.
لكن طرأت على هذا الدستور عدّة تعديلات كانت الغاية منها إمّا إسناد الرئاسة مدى الحياة للرئيس الحبيب بورقيبة و إمّا حذف سقف الترشحات و السماح بذلك للرئيس المباشر المنتهية ولايته بتجديد ترشحه إلى ما لا نهاية له كما وقع في اخر سنوات حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي و ترتّب عن هذه التعديلات بروز ظاهرة الرئاسة مدى الحياة سواء بنص دستوري صريح (زمن حكم الحبيب بورقيبة ) او في ثوب تنكري (زمن حكم بن علي) وترتب عنها ايضا مصادرة لحقين هما جوهر النظام الجمهوري الرئاسي و هما :
– حق كلّ مواطن ناخب في الترشح لهذا المنصب
– حق كلّ مواطن ناخب في انتخاب رئيس الجمهورية فيمارس حقه يوم الاقتراع و يختار مرشحه المفضل من بين بقية المترشحين إمّا بناء على انتمائه الحزبي و إمّا استنادا على الاطلاع على برامجهم الانتخابية والاقتناع بأحدها
الرئاسة مدى الحياة
نقح « مجلس الأمة » ( صار « مجلس النواب » سنة 1981 ) سنة 1975 الفصل 40 من دستور 1959 و اضاف له فقرة اسند بموجبها الى الرئيس الحبيب بورقيبة الرئاسة مدى الحياة و برّر هذا الحظوة الخاصة بالخدمات الجليلة التي قدّمها «الحبيب بورقيبة للشعب التونسي اذ حرّره من رقبة الاستعمار و جعل منه أمة موحّدة و دولة مستقلة عصرية كاملة السيادة » وعدّل مجلس النواب سنة 1976 بعض فصول الدستور مرة أخرى و لكن حافظ على الفقرة التي تسند فيها رئاسة الجمهورية مدى الحياة الى الحبيب بورقيبة و حوّلت الفقرة الى الفصل 39 من الدستور.
وبحسب ما أورده الأستاذ عبد الفتاح عمر في كتابه «نصوص و وثائق سياسية تونسية » فقد طلب الرئيس الحبيب بورقيبة في خطاب له سنة 1973 الرئاسة مدى الحياة و استعمل عبارة « الرئاسة بقية العمر » وذكر في الخطاب انه تم « الإلحاح عليه لقبولها من لدن المجلس القومي التأسيسي ومن الشعب » و أضاف « لو استفتي الشعب في هذا الاقتراح لوافق عليه بتمامه وكماله و لصوّت لبورقيبة بإجماع لا يخرج عنه أيّ مواطن ».
كما اعترض الرئيس الحبيب بورقيبة في هذا الخطاب وبحسب الأستاذ عمر على تحديد المرات التي يمكن فيها للرئيس المباشر تجديد ترشحه و قال ان » التحديد ضرره أكثر من نفعه » وأضاف »يجب إلغاء هذا النص «و تساءل مستنكرا » لماذا نضيّق الخناق على أنفسنا » وقال ايضا انه يرى انه يجب » ان لا نربط أنفسنا بأجل حتى لا نحرم من خدمات الإنسان الذي توفرت فيه الخصال الكاملة و المقدرة و الكفاءة لمجرد وجود نص دستوري…. » و أكد على وجوب أن « يظل مثل هذا الرئيس في مهامه بلا حد إلاّ حد ضعف الإمكانيات الفكرية و البدنية و زوال القدرة » واستشهد برؤساء دول اجانب « فالمارشال تيتو يتواصل انتخابه منذ سبع و عشرين سنة و الجنرال فرانكو مضى على ممارسته الحكم ما يقرب من أربعين سنة » و استخلص بورقيبة «من الجائز أن يبلغ الإنسان الشيخوخة و تظل له مع ذلك المقدرة الكافية ».
وغني عن البيان أن الماريشال تيتو ارسى في يوغسلافيا نظاما ديكتاتوريا قوامه الحزب الواحد وان الجنرال فرانكو أقام هو ايضا نظاما دكتاتوريا وأعاد لإسبانيا النظام الملكي و كان وصل الى الحكم بانقلاب عسكري على الجمهورية الاسبانية إثر حرب أهلية تلقى خلالها الدعم العسكري من ألمانيا النازية ومن إيطاليا الفاشية و أسفرت الحرب الأهلية عن انتصار قواته على الجيش الجمهوري الاسباني الذي ظلّ وفيا للنظام الجمهوري ممثلا في الجمهورية الاسبانية.
الرئاسة مدى الحياة في »زي تنكري»
أجاز دستور عام 1959 في صيغه الرسمية الأولى كما ذكرنا لرئيس الجمهورية المنتخب و المباشر ان يجدّد ترشحه ثلاث مرّات لكنه منح سنة 1975 الرئيس الحبيب بورقيبة الرئاسة مدى الحياة ثم بعد أن استلم بن علي رئاسة الجمهورية و الدولة تمّ عام 1988 تنقيح الدستور مرة اخرى وتم بموجب هذا التنقيح و من جديد العودة إلى تسقيف عدد الترشحات لمنصب الرئاسة. كان ذلك ضمن وعد بن علي في 7 نوفمبر 1987 بإلغاء الرئاسة مدي .فصار تجديد الترشح يكون مرّتين متتاليتين فقط عملا بأحكام الفقرة الثالثة و الأخيرة من الفصل 39 . و حدد الفصل 40 سن الترشح القصوى بسبعين عاما إلاّ ان بن علي نكث عهده ففي تنقيح الدستور عام 2002 جعل تجديد الترشح مطلقا غير محدد و رفع في السن القصوى للترشح الى 75 سنة ليوافق التعديل سنه هو في ذلك الوقت . وكان يعدّ في 2010 لتحوير آخر بدأت المناشدات حوله مباشرة عقب الانتخابات الرئاسية في 2009 لإلغاء سقف السن حتى يمكنه الترشح مرة أخرى والى مدي الحياة غير ان الثورة أنهت حكمه ومعه الرئاسة مدى الحياة . ولكن من يدري ؟
هكذا كانت السلطة تلجأ إلى تنقيح الدستور باستمرار وفقا لأغراضها السياسية من اجل إعطاء غطاء قانوني لاستبعاد أي مترشح آخر وكانت الانتخابات تجري في نطاق الغياب التام لحياد الإدارة فهي خاضعة تماما للحزب الحاكم والى وزارة الداخلية وحتى المجلس الدستوري الذي عهدت إليه مراقبة العملية الانتخابية فجميع أعضائه يعينهم رئيس الجمهورية وأما « المرصد الوطني للانتخابات » الذي أحدث في 2004 فكافة أعضائه عينهم بن علي أيضا من بين العناصر الأكثر ولاء له وكان دوره المصادقة الشكلية رغم كل عمليات التلاعب والتزييف على نتائج الانتخابات التشريعية أو الرئاسية في 2004 والتي ترشح فيها بن علي لمنصب الرئاسة في عهدة رابعة وفتح الباب مرة أخرى للرئاسة مدى الحياة …
إنّ المحرّك الأساسي لكل هذه التعديلات هو فكرة الزعيم القائد المعصوم من الخطأ فهو فوق الدولة و فوق المجتمع.. ذاك الذي يجب أن نمجد اسمه حيا صباح مساء بل حتى بعد موته أحيانا . يتحكم في مصائرنا ولا سلطة لنا عليه يحيط نفسه بسياج من الأمن المشدد وجيش من الاعوان يدافعون عنه وعن حكمه دفاعا عن مصالحهم وامتيازاتهم في بلد يصنع دستورا ليشوهه مرة تلو الأخرى بل ليلغيه ويعوضه بدستور منزل احيانا حتى صار خرقة بالية لا قانون ولا حكمة فيه ولا منفعة منه غير تلك التي يجنيها منقذ الأمة أو صانع التغيير…. فهل خلصتنا الثورة حقا من هذا الإرث البغيض ؟
هل انتهينا حقا بعد الثورة من محنة الرئاسة « مدى الحياة » ؟ لا ندري …ولكننا اكتشفنا أخيرا سياسة المنع من الترشح «مدى الحياة»
أخيرا من بمقدوره ان يتنبأ حقا بما يخبئه لتونس قادم الأيام ؟