نشر بالرائد الرسمي عدد 102 المؤرخ في 15 سبتمبر 2022 المرسوم عدد 55 لسنة 2022 المؤرخ في 15 سبتمبر 2022 المتعلّق بتنقيح و اتمام القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المتعلّق بالانتخابات والاستفتاء.
واعتمد المرسوم نظام الاقتراع على الأفراد في دورتين و قلّص من عدد الدوائر الانتخابية من 217 الى 161 وبذلك يصبح عدد النواب بعدد الدوائر كما اشترط حصول المترشح على 400 تزكية وورد فيه أيضا شيء مستحدث لم تعرفه البلاد في نظامها الانتخابي السابق وهو إمكانية سحب الوكالة من النائب. و على أساس هذا المرسوم الذي لم يشارك احد لا في تصوره ولا في صنعه . سيتم يوم 17 ديسمبر 2022 انتخاب أعضاء مجلسين وهما « مجلس نواب الشعب » و « المجلس الوطني للجهات و الأقاليم» المنصوص عليهما بالباب الثالث من دستور 2022.
هذا النظام الانتخابي الذي جاء به المرسوم يمثل بلا شك فكر قيس سعيد وحده بعيدا عن اية مشاركة مجتمعية فقد كان أستاذ القانون قيس سعيد انتقد سنة 2011 النظام الانتخابي الذي جاء به المرسوم الذي أعدته الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة لانتخاب أعضاء المجلس الوطني التأسيسي باعتماد النسبية و الاقتراع على القائمات منذ كان هذا النظام مجرد مشروع وقتها . و يتلخص موقفه في انه لم توجد بعد هيئة منتخبة تمثل سيادة الشعب وتعبر عن إرادته واعتبر وقتها أن الاقتراع على القائمات لا يتلاءم مع الواقع التونسي و فضّل عليه الاقتراع على الأفراد المعمول به فرنسا و بعد انتخابه رئيسا للجمهورية بقي قيس سعيد وفيا لموقفه الذي كان عبّر عنه سنة 2011 .وأعاده حتى قبل صدور المرسوم بقليل وذلك بمناسبة زيارة أداها يوم 6 أفريل 2022 الى ضريح الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة اذ صرّح ان الانتخابات التشريعية القادمة ستعتمد على الاقتراع على الأفراد.
العلة في الدستور وليس في المرسوم
منذ اعلان رئيس الجمهورية قيس سعيد اعتزامه اعتماد الاقتراع على الافراد انتقد سياسيون و أساتذة قانون هذا النوع من الاقتراع فهو في نظرهم لا يتلاءم مع طبيعة المجتمع التونسي الذي مازالت تحكمه الجهوية و العروشي حتى بين نفس ابناء الجهة ويشجع الزبونية و شخصنة السلطة و يضعف الاحزاب و ان الأولوية فيه لأصحاب الوجاهة ويترتب عنه برلمان مفتت لا تتكون فيه اغلبية فيعجز عن ممارسة مهامه و عن مواجهة السلطة التنفيذية.
و تعتبر الجمعيات النسوية المنتمية للديناميكية النسوية انه يقلص من حق المرأة في الترشح للمجالس النيابية لكن المفارقة ان راضية الجربي رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة صرحت انها شخصيا مع نظام الاقتراع على الافراد حسبما اوردته جريدة « لابراس » في عددها الصادر يوم 11 أفريل 2022.
وبقطع النظر عن هذه الانتقادات ووجاهتها التي أجمعت عليها كل أحزاب المعارضة وحتى بعض أحزاب المولاة في بعض منها وكثير من منظمات المجتمع المدني النسوية خاصة فهل يكمن المشكل في النظام الانتخابي ام أن العلة تكمن في الدستور ذاتها ؟ فأيا كان النظام الانتخابي فان النتيجة في نظرنا ستكون تقريبا واحدة في ظل دستور 2022 . فالمرسوم بصيغته الحالية او بأي صيغة أخرى و في كل الحالات لا يستطيع البتة ان ينتج برلمانا قادرا على مواجهة «الوظيفة التنفيذية » (باستعمال المصطلح الوارد في الدستور والذي يستبعد مصطلح «السلطة» ) و انتقادها ومساءلة رئيس الجمهورية . إذ أحكمت الوظيفة «التنفيذية » قبضتها على البرلمان تماما وجعلته قاصرا مقيدا بلا جناحين غير قادر على التأثير على الحياة السياسية إلاّ وفق ما سطّره له رئيس الجمهورية.
ان أيّ نظام اقتراع لن يكون بوسعه تحريك سواكن برلمان شبه ميت مقيّد في عمله فهو ليس غير عين رئيس الجمهورية الرقيبة على عمل الحكومة. هذا بالإضافة الى تضييق مجال عمل النائب بوضع ضوابط للحصانة البرلمانية و بإمكانية سحب الوكالة منه ..وهو ما يمثل سيفا مسلطا عليه وعقابا قد يطوله اذا ما سولت له نفسه الخروج عن دور المنفذ المطيع في برلمان سيكون أشبه بمكتب الضبط في ادارة برأس، واحد، وإرادة، واحدة .
هكذا لم يكتف دستور 2022 ببيان ما يدخل في اختصاص البرلمان على غرار دستور 1959 و دستور 2014 و إنّما حدّد للبرلمان بغرفتيه ضوابط تقيّد عمله و لا يمكن له ان يحيد عنها فمجلس نواب الشعب يمارس « وظيفته التشريعية » في حدود اختصاصاته المخولة له في الدستور حسب صريح الفصل 67 منه والذي لا يوجد له شبيه فيما يخص «الوظيفة التنفيذية » التي اطلقت يدها تماما . فحصر الوظيفية التشريعية في ما حدده الفصل وعدم الخروج عنه هو بمثابة إنذار للنواب بعدم تجاوز صلاحياتهم لاسيما منها الرقابية التي ضيق نطاقها.
فالبرلمان بغرفتيه ليس له صلاحية مناقشة أو إدخال تحويرات على السياسة العامة للدولة أو الاعتراض عليها فرئيس الجمهورية هو الذي يضبطها و يحدد اختياراتها الأساسية و يعلم بها المجلسين وهو الذي يعين رئيس الحكومة و باقتراح من رئيسها بقية اعضائها و هي مسئولة امام رئيس الجمهورية عن تصرفاتها. فله أن ينهي مهامها أو يقيل أي عضو منها تلقائيا او باقتراح من رئيس الحكومة وهو ما يعني في المحصلة ان الحكومة ليست مسئولة أمام البرلمان إذ لا تستمد شرعيتها منه و تنحصر مهمتها في السهر على تنفيذ السياسة العامة للدولة طبق التوجهات و الاختيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية. فإذا تبين للمجلسين ان الحكومة خالفت هذه السياسة يمكن لهما ان يعارضاها في مواصلة تحمل مسئولياتها فيوجهان ضدها لائحة لوم غير أن هذه اللائحة كأن لم تكن ، سراب خلب اذ تبدو أمرا بعيد المنال إذ يشترط لسحب الثقة أغلبية بالثلثين في كلا المجلسين . وهكذا تصبح لائحة االلوم مجرد إمكانية شبه مستحيلة في ظل مجلس ضعيف يهدد نوابه العقاب الذي يتضمنه سحب الثقة . بهده الصيغة يكون البرلمان بغرفتيه عين رئيس الجمهورية على الحكومة وليس عين السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية في نظام توازن للسلط . وبطبيعة الحال استبعدت في هذا النظام المختل تماما أية إمكانية لمساءلة او محاسبة رئيس الجمهورية اذا لا يمكن بأية حال عزله ايا كانت الأخطاء التي يمكن له ان يرتكبها فهو بهذا النظام الكلياني يرتقي الى مرتبة النبي المعصوم أو على الأقل الى مصاف الزعماء الروحيين الملهمين . أما إذا حدث خلل في سير دواليب الدولة فذلك لان الحكومة لم تحسن تنفيذ السياسة الحكيمة التي ضبطها رئيس الجمهورية علما ان هذه المنظومة الدستورية منقولة بشكل شبه حرفي عن دستور1959 (انظر الفصول 49 و 50 و 51 و 58 و 62).
ولمزيد التحكم في الإطار الضيق بطبعه الذي صنع « للوظيفة التشريعية» وضع الدستور ضوابط للحصانة البرلمانية التي هي موضوع الفصل 64 فيما يخص أعضاء مجلس نواب الشعب و الذي يحيل عليه الفصل 83 فيما يخص أعضاء المجلس الوطني للجهات و الاقاليم. ولا يمكن قراءتهما بمعزل عن الفصول المبينة لعمل البرلمان بغرفتيه و لاسيما عمله الرقابي وينص الفصل 64 على انه «لا يمكن تتبع النائب او ايقافه او محاكمته بسبب آراء يبديها أو اقتراحات يتقدّم بها أو أعمال تدخل في إطار مهام نيابته داخل المجلس » و يتضح من هذا الفصل ان دستور 2022 حدد الإطار الوظيفي و ظرف المكان ليتمتع اعضاء المجلسين بالحصانة البرلمانية . فهو يحصرهما في داخل عمل العضو وفي البرلمان اما خارج ذلك فهو مجرد ، اعزل من اية حصانة، بل أكثر من ذلك إذ وضع الدستور نظاما داخليا للمجلس يمنعه من أي خروج عن السلوك المستوجب من النائب في نطاق الانضباط الذي يطلب منه.
ان تحديد ظرف المكان يمثل معطى جديدا مقارنة بدستور 2014 وهو عودة مرة أخرى الى دستور 1959 . فقصر البرلمان بغرفتيه دون غيره من الاماكن هو الفضاء الوحيد الذي تسري فيه احكام الحصانة سواء في الجلسات العامة أوفي اجتماعات اللجان . فأي رأي يبديه النائب او مقترح يقدمه أو عمل ينجزه خارج قبة البرلمان لا تسري عليه أحكام الحصانة مثل مشاركته في البرامج الإذاعية و التلفزية او زيارته للمرافق العمومية في الدائرة التي يمثلها او في غيرها، حتى لو اعتقد النائب انه يتصرف في نطاق مهامه النيابية ولمزيد التضييق على النائب فان ما يأتيه النائب حتى تحت قبة البرلمان ليس كله مشمولا بالحصانة، بل يستثنى منها عملا بأحكام الفصل 66 الجرائم المرتكبة داخل المجلس مثل القذف و الثلب و تبادل العنف. كما يستثنى منها تعطيل السير العادي لأعمال المجلس ..
وقد يكون الفصل 66 رد فعل من قيس سعيد على ما كان يجري في البرلمان من تعطيل لأعماله و لاسيما تعطيل جلساته العامة و تبادل العنف البدني و الفظي بين النواب أحيانا.
وبطبيعة الحال ينضاف إلى كل هذا العمل التضييقي على « الوظيفة التشريعية » سحب الوكالة.
و ينص الفصل 56 من الدستور المدرج بالباب الثالث المتعلق ب « الوظيفة التشريعية » على أن الشعب صاحب السيادة يفوض «الوظيفة التشريعية » لمجلس نواب الشعب و للمجلس الوطني للجهات و الاقاليم و ينص الفصل 61 من الدستور على ان وكالة النائب قابلة للسحب بما يعنى أن الانتخابات التشريعية تمثل إسنادا من الناخبين لأعضاء هذين المجلسين توكيلا هو بمثابة التوكيل المدني أي نِيابَة بمقتضاها يلتزم الوكيل بأن يقوم بعمل قانوني لحساب الموكل .
و لا يوجد مثيل للفصلين 56 و 61 في الباب الرابع المتعلق ب « الوظيفة التنفيذية » كما قلنا فرئيس الجمهورية منتخب من الشعب صاحب السيادة لكنه بقع خارج الوكالة أي بعيدا عن دائرة المحاسبة و المساءلة مما يؤدي الى اختلاف في الطبيعة القانونية بين «الوظيفة التشريعية » و«الوظيفة التنفيذية » مادام رئيس الجمهورية غير مفوض له بتوكيل على شاكلة عضو البرلمان الخاضع الى منطق التفويض الشعبي تسحبه منه هيئة الانتخابات وفق المرسوم عدد 55 لسنة 2022 وهكذا أصبحت هيئة الانتخابات هيئة سياسية ولم تعد هيئة انتخابات تشرف على عملية الانتخابات و الاستفتاء و تعلن النتائج الأولية ثم النهائية بل هي بعض من عين رئيس الجمهورية العملاقة على أعضاء البرلمان ..علما انه هو الذي سمى كل أعضاء الهيئة فهي بهذا الشكل مدينة له بوجودها اذا يمكنه ان ينهي عملها في أي وقت كما يدين له بالوجود كل عضو فيها اذ يمكن ان يقيله ويعضوه بآخر .
غيض من فيض
طبعا ما قلناه هنا ليس إلا غيضا من فيض إذ ما جاء به دستور 2022 من إلغاء للسلطتين التشريعية والقضائية ( قد تكون السلطة القضائية موضوع مقالنا القادم ) هو أكثر بكثير من هذا و يحتاج إلى دراسة أكثر تفصيلا وتعمقا . خلاصة القول انه لا يمكن أن تكون النتيجة مختلفة كثيرا لو جاءنا النظام الانتخابي الذي وضعه قيس سعيد بشكل آخر للاقتراع . لا نعتقد ذلك فالعلة عندنا ليست في المرسوم 55 لأنه نتيجة وليس سببا . ومن الغريب أن بعض الجمعيات تذهب إلى اقتراح تعديلات على المرسوم من اجل استبدال هذا بذاك أو تحسينا هناك أو هناك .كمن يريد أن يعالج مرضا عضالا مستعصيا بحبة أسبرين او بمسكن . عدا ما يمثله هذا في أخر التحليل من انخراط في إصلاح نظام انتخابي هو مجرد عرض لا جوهر . ونتيجة لا سبب اذ هو صدى لدستور صنعه فرد وفق مشروع سياسي لا احد يعرف إلى أين سيقود البلاد . الا يمثل ذلك في أخر الأمر قبولا بالأمر الواقع إن لم يكن انخراطا في منطق الاستفراد بالسلطة و مساهمة في خلق الزعيم المعصوم . ؟