الرجل الذي يسكن المرافئ .. كائن غريب لا يدري ما مصيره

الظلام يهبط خلسة ..يوشك هذه الأيام أن يبلغ عنفوانه. ولا ينفك الوحيد في وحدته يدفع الصخرة الصماء ...يستمر العناء مستنزفا الدقائق الحرجة وليس في إمكان الغريب سوى أن يواصل الحركة رغم خشيته أن تسحبه حركته نحو العمق أكثر فأكثر، كأنه في قلب الرمال المتحركة.

"ما من طريق ملكي الى العبودية"

تعنّ له خواطر غريبة وتزيّن له نفسه أن يولي وجهه شطر طريق العودة ليبلغ الدرك الأسفل من الطمأنينة الزائفة و الارتياح الأحمق. ولكنه قد نزع عنه منذ دهر أسماله البالية وتركها لعشاق بقايا السلف الصالح. انه ليأنف الآن من استعادتها " فما من طريق ملكي إلى العبودية" ويواصل الحركة " لقد كان سيزيف سعيدا " . أما هو فما سولت له نفسه قط أن يحملّها ما لا طاقة لها به .ولم يحمله زيغ الهوى أبدا على أن يخرج على الناس وفي نفسه نية بيّتها لبث النور في الأعين التي تنظر فلا تبصر.لم يكن يوما طريقا ...لقد انجلت الغواية عنه غير أنه مازال يرى روح سيزيف تعبر المدن الصامتة الساكنة في الكهوف. فيضيق بالروح الحيرى أولئك الذين أطمأنت قلوبهم فيدينونها ويرمونها بحجر وهم المذنبون... يحسبون أن نقاء الضمير لا يكون إلا برجم المارقين عن الصف ...لا ود لهم في الاختلاف لان الاختلاف لديهم مفسد للود لكنهم يصرخون بعكس ذلك زورا إذ لا يحكّمون غير حروف الآيات في ما يشجر بينهم وبين من لم يقرؤوا الكتاب إلا ليكتبوه بأيديهم من جديد بمقاصدهم لا بحروفه .

لا حرية إلا مع الاغتراب عن الهوية.

ذكرته حكاية سيزيف بقصة الفتى الأفلاطوني ذاك المتحرر من سجنه. لم يكن يعلم عندما أطلقت بعض المعرفة سراحه أن الاغتراب ينتظره في المنعطف الأول من طريق الحرية ، في مدخل نهج الثورة... ... لا حرية أحيانا إلا مع الاغتراب عن الهوية... فالعالم لديه لا يمكن أن يقسم بين مواطن وآخر بل بين مواطنين وغرباء ، بين عقلاء ومجانين . والمجانين هم جماعة الخاص والانتماء، جماعة الوطن المنغلق على خصوصيته الزائفة وعلى روحانيته السجينة التي تتغذى من محاربة الإنساني ولا تكون إلا بفقدان نور الكوني في لا حدوده . الهوية عند البعض لا تكون إلا بخلق تعارضات زائفة بين الروحي والإنساني كما يعتقد الفلاسفة المزيفون . أما هو فمتنقل بين كل الروحانيات ،بين كل الحقائق جميعا من بوذا إلى خاتم الأنبياء... ومن طرفة بن العبد الى زوربا اليوناني... إن العقلاء هم أولئك الذين لا وطن لهم. إنهم البدو الرحل والساكنون على الدوام في المرافئ . لا يرتحلون بعيدا أبدا لأن المرء إذا ارتحل وجد قومه،" تأصّل" من جديد بفعل الحنين. وهو المقطوع عن الجذور التي تشتم منها رائحة الموت يخشى على الدوام الحنين وألم العودة التي قد لا يحين أوانها أبدا ... عجبا لقومه لا ينتخبون إذا طلب منهم ذلك غير أولئك الذين يؤصلونهم في الحنين إلى الخاص كما علمتنا كل تجارب المؤامرات الوهمية على الوطن والمصير.

اما الساكنون في الموانئ فهم الحالمون بالرحيل من دون حاجة إلى اعتلاء ظهر سفينة ... المرفأ ملتقى كل الغرباء. يجتمعون على نخب لا احد يعلم متى يقرعونها مرة أخرى . أما الهوية التي يبشر بها الخارجون من الزمن الغابر فليست غير جزيرة مقطوعة عن الجزائر .. الوطن جزيرة ومنفى وانقطاع... والهوية معادية للشعر لان الشعراء غاوون يتبعهم الغاوون ... لقد ألف قومه السلاسل في كهفهم واعتادوا الأغلال فهم في تجانسهم كالجثة الواحدة وان كانوا في وهم ذواتهم أحرار .

أجل أنا وحيد لكنني حر!

لقد تحرر الفتى من ظلمة الكهف و ما به من رغبة أن ينشد الحياة كرّة أخرى بعين سجين ...انسلّ من القطيع فانجلت عن عينه الحجب، حجابا غبّ حجاب. لكن أنّى له الخلاص من الألم وآلام السجناء المستعذبين شقاءهم تسكنه؟

كلما جاء سيد لا سيد له يدعوهم ان فكوا أغلالكم واكسروا قيود الأوهام والعقائد البالية عنكم أبوا واستكبروا وأخذتهم العزة بالإثم .وليس يدري بعد هذا على وجه الدقة ما إذا أمسى بانكساره غليظ القلب أو أن ضربا من الرأفة بهم أخذته . لا يذكر أن أفلاطون قد حدّث عما كان من أمر السجين المتحرر بعد رجوعه عن خلانه، لكنه يرجح انه تنفس الصعداء كلما أحس بجوهر الحرية يتنفس في ذاته. ويتخيله يردد "اجل أنا وحيد لكنني حر" ويرجح أيضا أن ارتياحه يتداعى كلما ألزم نفسه بمسؤوليته تجاه الغاضبين منه. انه يخشى على قومه أن يقضوا تحت أنقاض الأبنية العتيقة الخربة التي احتموا بها . أيبعثهم بعثا آخر. لكن هل يؤمن بالبعث من فقد الإيمان منذ أن اكتشف أن الكون مليء بالثقب السوداء؟ ورغم ذلك يحلو له أن يردد أحيانا في نفسه ولنفسه "ويل للذين يموتون ولا يبعثون" ...يمضي اليوم وقد تخلف عن سبيلهم لأنه سار في غير طريقهم ولكن يعسر عليه أن يتركهم لأنهم فيه وبعض منه .ويرجع من أقصى المنفى يسعى إليهم وقد أوتي بسطة من العلم خشية أن يكون فريسة للاستعلاء ...تمضي أيامه ولياليه في تلكم الحركة جيئة وذهوبا فمازال مفهوم الغير المختلف الذي لا تكون غيريتك الا بوجوده - آخر تجاه آخر مؤتلفان مختلفان متحرران من همينة عقيدة الشبه والوحدة والتجانس- يترك في نفسه بقعا داكنة..

إن فيه شيئا من مجد بروميتي المتمرد الذي سرق النار من الآلهة فمازال صدى قولته الشهيره يتردد بين ضلوعه" إني لا استبدل ألامي المبرحة بعبوديتي . "

كائن غريب لا يدري ما مصيره.

تراءت له كل هذه الصور وبرزت كرؤيا شاذة مفزعة وقد أوشك الظلام على بلوغ عنفوانه. رؤيا فيها حزن سيزيف وتمرد الفتى الأفلاطوني وإصرار بروميتي وغربة التوحيدي ونكبة ابن رشد وآلام الفتى المصلوب على الخشبة. استعاد ذلك كله على نحو غامض وهو يفكر في كائن غريب لا يدري ما مصيره غير أنه وحيد دائما ،عاشق لوحدته وغرابته ،يحمل الوطن والألوف في ذاته ولكن ينشد العالم الأرحب، مغترب في كل العصور وغالبا ما تلفظه الألوف، وغالبا ما يعافه وطنه... ولكنه لا ينفكّ يحمل صليبه على كتفيه وتاج الشوك على رأسه...إنه الغريب في غربته... إنه المثقف.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات