أنا رجل ستيني أعزب أعيش مع والدتي وحدنا … لدي كمشة من الأمراض.. تعتري جسمي التهابات تمنعني من النوم ...ليلة أمس شعرت بحمى تجتاحني. قست حرارتي فإذا هي فوق التسع والثلاثين .لا أحب الأطباء واكره عياداتهم ورائحة المرض والموت التي تفوح منها وأمقت الحديث معهم فأكثرهم يستقبلونك ببرود ولا يعنينهم غير الأجرة.
لم اذهب إلى الطبيب. اكتفيت بما املك في المنزل من عقاقير . أفقت في الصباح مهشما وكأني أكلت علقة ساخنة. أحرك جسمي بصعوبة ..دخلت غرفة والدتي الثمانينيّة المصابة هي أيضا منذ مدة بمرض القلب هاجمها بعد وفاة والدي لأصبّح عليها . قالت لي أن هاتفي رن مرتين وأنا نائم. فتحت الهاتف فإذا هي رسالة قصيرة من هيئة الانتخابات تذكرني بالموعد الانتخابي وتطلب مني التثبت من مركز الاقتراع و التعرف على المترشحين الاثنين في عمادتي في الدور الثاني.
قمت فعلا بالاطلاع على المترشحين الاثنين في عمادتي. لا اعرف أي واحد منهما غير أني قررت أن أؤدي واجبي الانتخابي فلم يكن لدي شيء أفعله. استغل الفرص النادرة التي تتاح لي للخروج من المنزل طمعا في الالتقاء بزملائي القدامي في قسم الوفايات بإحدى بلديات العاصمة و الذين فرق بيني وبينهم المرض والنسيان.. كما انتظر بفارغ الصبر حلول رأس الشهر والتأكد من أنهم" صبّوا " لأذهب إلى مركز البريد فأرى هناك أندادي من المتقاعدين ينتظرون على بابه منذ الفجر تقريبا لتسلم ملاليم جراية التقاعد . .. لا استمع منهم الى غير حديث الفقر و المرض ومشاكل الزوجة الخرنانة وارتفاع تكاليف الحياة وفاتورة الكهرباء التي نزلت على أحدهم كالصاعقة في منزل لا يكاد الضوء يطفأ فيه لحاجة ولغير حاجة اهمالا من الجميع .. و مصيبة الأولاد العاقين وأكثرهم عاطلون عن العمل .أتذكر دائما وأنا استمع إلى همومهم قول ساكن المعرة : "هذا جناه ابي علي… وما جنيت على احد " ،حامدا الله على عزوبتي
قبل الذهاب إلى التصويت دخلت إلى بيت الاستحمام واغتسلت مرتين. أحب أن أكون نظيفا وأنا أدخل مكتب الاقتراع . فالنظافة في بلادي هذه الأيام قيمة لا تضاهيها اخرى فكن نظيفا ولك بعد ذلك أن ترتكب من الحماقات ما تشاء.
وجدت شخصين قدرت أنهما في عمري لا أكثر في ساحة المدرسة مركز الاقتراع الخالي تقريبا من المقترعين . سألت احدهما قبل الدخول إلى المكتب إ ذا كان يعرف المترشحين فنظر إلي بطريقة غريبة ولم يجبني . سالت الثاني فقال لي انه لا يعرفهما كما انه لا يعرف لماذا ينتخب ولا فكرة له عن مجلس المشيخة (هكذا كان يسمي الانتخابات) ولكنه سيؤدي ما سماه واجبه لسبين أولهما انه تعود على الاقتراع منذ مدة والثاني كرهه للنهضة والسنوات العشر التي يسميها سوداء.
تجنبت مناقشته فقد تعلمت منذ وعيت بفساد طباع الناس من حولي ألا أجادل أحدا عندما يكون الموضوع مرتبطا بالسياسة أو بكرة القدم ، فالجدال هنا غير محمود العواقب وكثيرا ما ينتهي بتطييح القدر.
جاء دوري للاقتراع .وضعت إصبعي في الحبر الأزرق ( تمنيت ألا افعل ذلك لأبقي على نظافتي يدي ) أخذت ورقة التصويت. دخلت الخلوة. اخترت واحدا هكذا دون تفكير. شطبت على الثاني، لا اعرفه أيضا. خرجت من مكتب الاقتراع لا ألوي على شيء . اتجهت إلى المقهى الشعبي في حيّنا كان غاصا برواده وهم من العمال.. المقهى رث ولكن ثمن القهوة فيه هو الذي يدفعني اليه . وجدت بعض الجيران يتحدثون في كثير من الحماس. سألتهم إن كانوا أدوا واجبهم الانتخابي وأنا ابرز بفخر سبابتي الملوثة بالحبر الأزرق. لم ينتبه أحد إلى سؤالي فقد كان الجميع خائضين في كثير من السخونة في هزيمة المنتخب الوطني في كوت ديفوار .كانوا يسبون الممرن بألفاظ جنسية قبيحة ..كدت أشاركهم في السباب ولكني تذكرت حكمتي حول السياسة والكرة كما إني لم أشاهد مباريات كأس أمم إفريقيا.
غادرت المقهى حوالي الساعة الواحدة عصرا شاقا طريقي إلى البيت. حين وصلت كان في انتظاري خبر كمطرقة هوت على رأسي .وجدت المنزل وقد امتلأ بإخوتي من الرجال والنساء وكلهم من المتزوجين بعد أن علموا بالهاتف من الخادم الصغيرة التي تقوم على شؤون آمي انه قد أغمي عليها وهي في فراشها . كانت العجوز قد أصيبت بنوبة قلبية فاجأتها . حملت على العجل إلى المستشفى. لم أذهب إلى زيارتها هناك فقد منعتني إحدى اخواتي المصابة بمرض التطيّر و الهلوسة من ذلك. لا ادري لماذا تعتقد أن عملي في قسم الوفيات يجلب النحس.
في المساء تابعت قليلا أخبار الانتخابات ونسب المشاركة فيها دون حماس. كانت كلها متدنية جدا . نمت مع العاشرة لأفيق مرعوبا على صرخة مدوية ونديبا تعرفت من خلاله على صوت أختي الصغرى .. فهمت دون عناء آن والدتي قد فارقت الحياة .
لا أدري لماذا حمّلت هيئة الانتخابات وزر كل المأساة التي أعيشها بخسارة أعز ما املك وما بقي لدي في حياتي البائسة بلا زوجة ولا أبناء. ظللت أفكر في المدة التي بقيت فيها المسكينة في غيبوبتها قبل وصول إخوتي إليها بعد ساعتين بحسب ما علمته لبعد المسافة بين مقرات سكناهم ومنزلنا القديم في تربة الباي .بكيت كطفل يتيم مكلوم وأنا العن الفكرة التي دفعتني إلى تركها وحدها لساعات كما لعنت فكرة الانتخابات المشؤومة والمترشحين الإثنين: من صوتّ له وأنا لا اعرف عنه شيئا ومن لم أصوت له وأنا أجهل أصله وفصله.
يا لعبث الأقدار حسبت أني بمشاركتي في الانتخابات سأساهم في بناء بلد كما يقولون كثيرا في شريط الأنباء فإذا أنا أشارك في مهزلة لم يشارك فيها غير أمثالي من الشيوخ المرضى . كنت ايضا ببلاهتي ربما سببا غير مباشر في هلاك آخر وأعز ما بقي لدي.
آه يا مؤنستي من مجيئي إلى رحيلك ، لمن تركتني من بعدك ! ؟