أتابع في كثير من الاهتمام وفيه شيء من الحزن الجدل الذي ثار هذه الأيام حول مناقشة رسالة دكتورا الامس الاربعاء 5 جوان 2024 في كلية الآداب بمنوبة في اختصاص الاديان حول »اشكالية الدين والدولة في إسرائيل » بطبيعة الحال انبرى البعض ليكيل الاتهامات بالتطبيع للأستاذ المشرف وللكلية. هذا الاتهام أعاد الى ذهني ذكريات ارتبطت بتدريسي في الجامعة وباهتمامي لاحقا بموضوع الأديان المقارنة .
هذا النص هو شبه يوميات شخصية سأذكر فيها بعض أسماء الأساتذة زملائي الذين درّسوا موضوع الأديان المقارنة سواء في كلية الآداب بالقيروان او في ادأب منوبة وسأحجب بعض الأسماء الأخرى حفاظا على سلامتهم.
قصتي مع الأديان المقارنة
بدأت قصتي مع موضوع الأديان المقارنة في كلية الآداب بالقيروان . عينت في التسعينات من القرن الماضي مساعدا بهذه الكلية حديثة النشأة وقتها . التحقت قبل بداية السنة الجامعية بها . وجدت هناك في مكتبه رئيس القسم المرحوم صلاح الدين بوجاه وهو رجل لطيف جدا . طلبت منه جدول دروسي وأعلمته اني اهتم بدراسة الادب وكنت قبل مدة قصيرة كتبت اول رسالة جامعية لي في نطاق شهادة الكفاءة في البحث حول ادب القصاص المصري الشهير جمال الغيطاني وقد نصحني هذا الأخير بنشر البحث في مصر بعد ان اطلع عليه واعجب بمحتواه وكان اول بحث جامعي يكتب عنه ( كان الغيطاني مجهولا تماما في تونس حين كتبت عنه في أواخر الثمانينات بحثا بعنوان »الزمن الروائي في ادب جمال الغيطاني » نشرته دار مدبولي في القاهرة ثم بحثا اخر لاحقا بعنوان » البوليس في رواية الزيني بركات » عن دار بدوي وهي دار نشر لصديقي وزميلي محمد البدوي رحمه الله. (
استمع الي الاستاذ صلاح الدين باهتمام ولكنه قال لي ان دروس الادب وزعت على أساتذة الكلية المتخصصين في الادب كما بقية الدروس الأخرى في الحضارة في اجتماع اخر السنة المنقضية وانه لم يبق غير درس واحد بعنوان »صورة المسيح في الفكر العربي من خلال كتاب »وحي المسيح » لميخائيل نعيمة ومن خلال رواية »قرية ظالمة » للطبيب المصري المختص في جراحة العظام محمد كامل حسين وهو من اروع ما كتب في الادب العربي حول صلب المسيح . واعلمني انه خلافا شديدا نشب حول هذا الدرس وعلاقته بالتطبيع وان الأستاذ احمد الطويلي اعترض عليه بحجة انه يعلم الكفر فما كان من احد الاستاذين اللذين اقترحا الدرس واظنه المرحوم عبدالله الخلايفي او المرحوم احمد الحذيري الا الانسحاب ولم يبق غير الأستاذ حمادي المسعودي وانه لا يمكن ان تدرس المادة الا من خلال درسين مختلفين يقدمهما استاذان كل على حدة . واعلمني أيضا ان الأستاذ حمادي المسعودي سيدرس معي المادة ونصحني بالاتصال به . اتصلت به لاحقا في منزله فشجعني على التدريس معه ووعدني بمساعدتي في ذلك ومدي بكل المراجع التي احتاجها.
ولنعد الى حديثي مع الأستاذ بوجاه . استغربت كلامه ورفضت ان ادرس مادة اجهلها. اذكر اني قلت لرئيس القسم اني لا اعرف عن المسيحية شيئا غير ان المسيحيين يؤمنون باله هو ثلاثة وليس واحدا واضفت ضاحكا اني زرت وانا شاب باخرة رست في ميناء حلق الوادي وأنا طالب وقد فتحت الباخرة للزوار واهداني طاقم السفينة مع أصدقاء كانوا معي نسخة من الانجيل واني ذهبت مع الرفاق بعد مغادرة الباخرة فورا الى مقهى البلفدير واني لم ار ما اصنع بالإنجيل فالقيت به الى الاوز في بركة حديقة البلفدير .
ضحك الرجل ولكنه اصر انه لا يملك لي غير درس المسيحية وقال لي في ما يشبه النصيحة او التهديد لا ادري رغم طابعه اللطيف ان رفضي قد يسبب لي مشاكل في الترسيم . قبلت الامر على مضض .
شرعت في تدريس المادة . كانت الحصص الأولى معاناة حقيقة اذ كنت اخشى من أسئلة الطلاب في درس لا املك حوله غير معلومات غامضة ومضطربة . كنت ادخل درسي وقلبي »يعزق » من التوجس. وفعلا اصابني احد الطلبة في راسي بحجر ثقيل كان عبارة عن سؤال حول الفرق بين مفهوم الوحي في الاسلام والمسيحية .
من حسن حظي ان سؤاله كان في آخر الدرس . وفي شيء من الخبث يتعلمه الأستاذ في علاقته بتلاميذه او طلبته حين يعجز عن الاجابة عن سؤال صعب لم يستعد له اجبته ان السؤال يحتاج الى كلام كثير وان ما بقي من الدرس لا يتحمل هذا الحديث ووعدته باني سأعود الى الموضوع في بداية الحصة القادمة.
حين عدت الى منزلي في العاصمة قضيت الأسبوع كاملا في القراءة حول قضية الوحي وهي قضية شائكة جدا . بدأت بقراءة المقدمة الثرية و المهمة جدا للأستاذ عبد المجيد الشرفي في رسالته لدكتورا الدولة حول الجدل الإسلامي المسيحي . وتحتوى هذه المقدمة وهي في اكثر من مائة صفحة تاريخ المسيحية وقضاياها الكبرى منذ ولادة المسيح في بيت لحم وحتى الانقسامات الكبرى التي عرفتها المسيحية الى نهاية القرون الوسطى كما قرات بعض المقالات حول الموضوع نفسه عند اكابر البحاثة المستشرقين الغربيين . عدت الى الموضوع في اول الحصة الموالية وعرضت على الطلبة درسا مصغرا حول الموضوع.
ظللت ادرس الموضوع طوال السداسية الأولى دون اقتناع كبير رغم اني تقدمت شوطا في فهم الدرس . لم يمنعني ذلك من اثارة قضية التدريس والاختصاص في الجامعة التونسية في اجتماع وقع في احد نزل مدينة القيروان لتقييم اعمالنا في السداسية الأولى .كان ذلك بحضور والي القيروان ( كانت الأمور تجري بهذه الطريقة التي يختلط فيها العلمي بالسياسي) تحدثت يومها عن الظلم الذي يلحق الطلبة وتكوينهم حين يكلف أستاذ بمادة لا يعرفها جيدا او يجهلها . ولم يعجب كلامي لا الوالي ولا عميد الكلية ( كادت هذا الحادثة ان تكلفني لاحقا ترسيمي بالجامعة).
مع نهاية العام وجدت نفسي في علاقة اكثر تصالحا مع موضوع المسيحية والأديان . واسفرت التجربة عن كتابة بحث علمي اول حول صلب المسيح في رواية » قرية ظالمة » بعنوان »الديني والسياسي في قرية ظالمة» حين انتهيت من كتابة البحث ترددت في نشره خوفا من الشك في جودة البحث في موضوع لازلت فيه مبتدئا .
لم اجد غير الاب جون فونتان وهو راهب من جماعة »الأباء البيض » المستقرين بنهج راس الدرب وهو مدير معهد الاداب العربية IBLA . ومقر المعهد بزنقة القرادشي بمنطقة رحبة الغنم و راس درب بمحاذاة المنزل الذي سكنه بورقيبة في الثلاثنيات من القرن الماضي ( سمي لاحقا بساحة معقل الزعيم وهو المكان الذي ولد فيه أبي في العشرينات القرن الماضي وولدت فيه أيضا ..ولي به علاقة وجدانية خاصة).
طلبت من جون فونتان رأيه في عملي.. و على فكرة جون باحث تحصل على شهادة دكتورا الدولة في فرنسا في اختصاص العربية بعد الاستاذية في تونس برسالة حول »البعث في ادب توفيق الحكيم » ترجمه الى العربية الأستاذ محمد قوبعة الذي احييه بالمناسبة وهو الذي اشرف على عملي حول الغيطاني.
كان بحثي خلاصة الدرس الذي قدمته لطلبتي حول صلب المسيح في حوالي أربعين صفحة . نسيت امر البحث بعد ان سلمته الى الاب »جون » . غيرانه اتصل بي واعلمني انه قرا العمل في كثير من الاهتمام وعرضه على هيئة تحرير المجلة العلمية التي كان يصدرها معهد الآداب العربية التابع لجماعة » الأباء الييض IBLA» ( مجلة محكمة) وان اللجنة اعجبت به كما أعجب به هو شخصيا وطالب مني ان ينشره في مجلة المعهد غير انه طلب مني ايضا ان اختصر البحث لاعتبارات تقنية وان اكتفي بحوال 25 صفحة وفعلا نشر البحث في المجلة كما نشره لاحقا موقع تابع للفاتيكان ومواقع أخرى جزائرية وبيروتية.
كما اسفر الدرس عن بحث ثان لا يزال مخطوطا في حوالي مائة صفحة لا أزال اتردد في نشره لأسباب فنية ويتعلق بتأثير الإسرائيليات في القصص الديني من خلال قصة الخلق في كتاب » عرائس المجالس » للثعلبي النيسبوري.
توطدت علاقتي بدرس الأديان فاقترحت بعد سنتين او ثلاث احداث شهادة اختيارية في الأديان المقارنة بمعية زميلين هما الصحبي العلاني وحمادي المسعودي ( كان هذا الموضوع على مستوى برامج التدريس مجهولا تماما في برامج الجامعة التونسية في قسم العربية وليس على مستوى البحث اذ ان أساتذة اجلاء دشنوا البحث في الأديان منذ السبعينات من القرن الماضي واذكر منهم الأساتذة محمد الطالبي وسعد غراب وعبد المجيد الشرفي وحسن القرواشي واخرين).
وفعلا اتفقت مع الزميلين الصحبي العلاني وحمادي المسعودي على الشروع في تدريس هذه المادة لمن يختارها.. كانت شعبة غير اجبارية ومفتوحة لكل الاختصاصات وخاصة اختصاص الفلسفة.
كان درسي الأول يتعلق بقصة الخلق في التوراة والقران.
جرى الدرس الأول صاخبا اذ اتهمني طالب في الفلسفة بان الدرس مشبوه وانه لا يفهم منه غير التطبيع مع إسرائيل . حاولت مجادلته غيرانه لم يقتع.. حينها طلبت منه اما ان يتابع الدرس ويؤجل حكمه الى اخر السداسية او يختار التسجيل في مادة اختيارية أخرى. ولكنه فضل البقاء ربما ليتأكد من ان الامر يتعلق فعلا بالتطبيع ليكون ذلك مناسبة ينتهزها للتشهير بي.
غير انه اكتشف ان الامر لا صله له لا بإسرائيل ولا بالتطبيع بل هو عبارة عن تحاليل نصية لبعض آيات التوراة والانجيل قصد المقارنة والوقوف على العلاقات بين النصين وخاصة تأثير النص الأول وهو التوراة في النص الثاني وهو القران .
حين انتقلت من كلية القيروان الى آداب منوبة حملت معي درس الأديان المقارنة واقترحت شهادة اختيارية في المادة (كان الموضوع له صلة بالمسيحية) في اجتماع القسم في اخر السنة وكان مخصصا لاختيار مسائل العام القادم . كان الأستاذ عبد المجيد الشرفي من الحاضرين في الاجتماع . اعلمني الأستاذ الشرفي انه لا يوجد حاليا في الكلية أي أستاذ مهتم بالموضوع (يحتوي الدرس على مسالتين يدرسهما كالعادة استاذان مختلفان ) وانه لا يعرف غير أستاذ واحد مهتم مباشرة بالمسيحية يدرس في كلية 9 افريل وهو الأستاذ حسن القرواشي ونصحني بالاتصال به.
كدت اتخلى عن المشروع غير ان الأستاذة امال قرامي اقترحت علي بعد الاجتماع ان تشاركني الدرس وفعلا شرعنا في تدريس المادة واقبل عليها الطلبة اقبالا شديدا ثم مع نجاح الشهادة الاختيارية بعثت الكلية اختصاصا في مرحلة الماجستير وهي ماجستير » الأديان المقارنة » في كلية الآداب منوبة ثم صارت اختصاصا موجودا في جل كليات الآداب والعلوم الإنسانية في تونس.
لماذا أروي هذه القصة الطويلة ؟
لكثير من الأسباب :
أولا: الصعوبة التي يجدها الجامعيون وهم يخوضون في موضوع الأديان وخاصة عندما يتعلق الامر باليهودية اذ يظل يلاحقهم موضوع التطبيع.
ثانيا : ان الاتهام بالتطبيع مسالة قديمة وتنم اليوم عن جهل لأنها لا تعرف تاريخ الجامعة التونسية و تجهل تماما ما يدرس فيها منذ اكثر من ثلاثين سنة.
ثالثا : ان ما تدرسه الجامعة هو جزء من الحريات الاكاديمية التي لا يمكن المساس بها والتي ظلت مصانة في جميع العهود رغم محاولة البعض المساس بها …مع تشجيع زملائي على نشر دروسهم في هذا الاختصاص وليس فقط رساءلهم الجامعية الطويلة والصعبة والتي لا تنشر أحيانا واذا ما نشرت فلا يطلع عليها الا عدد قليل من الباحثين ( لم اطلع شخصيا على رسالة الزميل فوزي البدوي حول الجدل اليهودي الاسلامي بل لا ادري اذا كانت نشرت أصلا ).
رابعا : ان من يتحدث عن التطبيع في البحث الذي نوقش امس لا يعلم ان نفس الموضوع بنفس العنوان تناوله كتاب بعنوان حول « الدولة والدين في إسرائيل » ونشره مركز الابحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية ( انظر الصورة اعلاه ) . ذكرني به احد الزملاء اليوم من خلال تدوينة كتبها بمناسبة مناقشة اليوم . و لوكان الحديث عن الدين او الدولة في إسرائيل يتعلق بالتطبيع كما يزعم البعض لما كانت منظمة التحرير الفلسطينية هي من نشر البحث… فعلى من نزايد يا ترى ؟
خامسا : اكثرنا يجهل كل شيء عن اليهودية والمسيحية ونحن بعيدون على مسافة نصف ساعة بالطائرة من الأراضي المسيحية وفي صلة لصيقة بالصراع مع الدولة الصهيونية . بل فينا من يفتخر أحيانا بهذا الجهل. فقراءة التوراة والاناجيل كفر ( على فكرة منع عرض الكتاب المقدس في رفوف بعض معارض الكتاب العربية واظن الامر وقع في الجزائر وربما في غيرها ) رغم اني اعتقد انه من الصعب فهم القرآن وخاصة القصص الواردة فيه دون معرفة الكتابين اللذين انحدر منهما وهما التوراة والانجيل (دون الدخول في مشكلة التحريف فهي مسالة لاهوتية وليست مسالة تاريخية وعلمية ).
سادسا : نحن نجهل تماما الجهد الذي يقوم به البحاثة في إسرائيل لفهم العرب من خلال الانكباب على فهم الحضارة العربية ومن خلال ترجمة أمهات الاثار العربية الكلاسيكية والحديثة .فقد حكى لي زميل انه زار إسرائيل وانه بهت للثراء المدهش للمكتبات العامة وفي الجامعات سواء في تل ابيب او في القدس التي تحتوي امهات المؤلفات العربية في كل الاختصاصات ( اتحفظ عن ذكر اسم الزميل حماية له مع ملاحظة انه ليس الحبيب الكزدغلي المتهم دائما بالتطبيع والذي اكد لي مرارا انه لم يزر اسرائيل وانا اصدقه).
سابعا : يجب الانتباه الى الدور الخطير الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي( رغم قيمتها من جهة أخرى) في نشر الجهل وتجييش العامة من قبل اناس يحسبون على المثقفين لأسباب أيديولوجية وربما عداء للجامعة التونسية واساتذتها وخاصة قسم العربية.
ثامنا : النزعة السحرية المستحكمة لدينا وهو اعتقادنا اننا نستطيع باللغة ان نوجد الأشياء او ان نعدمها فاذا الغينا كلمة إسرائيل من لغتنا الغينا وجودها في الواقع ولذلك سمعت احدهم اليوم يعترض على وجود كلمة إسرائيل في البحث الذي يناقش اليوم .
تاسعا : «اعرف عدوك » تلك مقولة نرددها أحيانا ونحن لا نعرف معناها . نعم «اعرف عدوك » لان المعركة مع إسرائيل او الكيان المحتل ليست عسكرية فقط بل هي علمية أيضا ولا بد لهذه المعركة ان تمر عبر المعرفة بالدولة المحتلة والدين اليهودي وعلاقة التوراة بنشوء اسطورة ارض الميعاد والشعب المختار وحلم العودة التي استند اليها الفكر الصهيوني في تأسيس دولة إسرائيل حتى ولو كان مؤسسو الدولة الصهيونية في الأصل من غير اليهود المتدينين.