» ليس في هذا أية دعوة إلى دعاية زائفة ، فقد مر زمنها «
قيس سعيد خلال لقائه مع عواطف الدالي الرئيسة المديرة العامة للتلفزة التونسية…
استدعى قيس سعيّد يوم الجمعة 4 أوت 2023 الرئيسة المديرة العامة للتلفزة الوطنية عواطف الدالي ووجه انتقادات حادة للخط التحريري في القناة، فقد قال سعيد -خلال لقاء بقصر قرطاج مع الدالي- إن العديد من البرامج التي تبثها القناة الوطنية -فضلا عن نشرات الأخبار وترتيب الأنباء-» ليست بريئة».
وأضاف سعيّد أنه شاهد جزءا من برنامج « الزمن الجميل »، وما هو بالزمن الجميل، ولو كان جميلا لما كان الوضع على هذا النحو، وفق تعبيره .
وانتقد استضافة البرنامج بعض الأشخاص الذين قال عنهم إنهم كانوا مختبئين عام 2011، وكان منهم من هو مطلوب للعدالة، « وأصبحوا الآن أبطالا ويتحدثون عن الزمن الجميل »، مشيرا إلى أن هذا ليس خطا تحريريا ولكنه خط القوى المضادة للحرية ولتحرير الوطن.
واختتم توجيهاته للدالي بالقول إنه « لا يمكن أن يستمر ما يبث من المؤسسة الوطنية، ويجب أن تكون في خدمة التونسيين لا في خدمة » هذه اللوبيات التي تتخفى وراء الستار ». من دون أن يحدد من هذه « اللوبيات. فكالعادة جاء خطابه موجها الى كائنات غامضة لا يعرفها إلا هو » . ولعل أهم جملة لدينا قالها قيس سعيد لعواطف الدالي في سياق ما سنراه من شبه بين زمننا الحاضر والزمن الماضي هي تلك يقول فيها » ليس في هذا أية دعوة إلى دعاية زائفة ، فقد مر زمنها « فهل مر زمن الدعاية، زمن » قافلة تسير » التي يشير اليها سعيد ؟
ما نظن أن ذاك الزمن قد مر فعلا .ما رأيناه ليس غريبا علينا .انه من نوع « Le déjà vu » : تراث مشؤوم ورثناه عن بورقيبة وكرسه بن علي .. ليس الأمر مستغربا . فلقد تربت التلفزة التونسية منذ تأسيسها على العبودية والولاء الأعمى للسلطة . كانت ولا تزال ( عدا قوسا صغيرا فتحته الثورة وأغلقه انقلاب 25 جويلية) وفي انتظار تحليل مضمون الفيديو بأكثر توسع – الذي عرف تفاعلا ضخما من قبل التونسيين تراوح بين استهجان تدخل السلطة جهارا ولكن ليلا وليس نهارا في الخط التحريري للتلفزة الوطنية بلا أي تردد ولا تلعثم، بالتصريح وليس بالتلميح والسخرية من عواطف الدالي التي بدت »المغبونة » في مظهر المصدومة يرثى لها من الخوف والرعدة – نقدم هنا لقرائنا صورة مقتضبة عن الإعلام في عهد بورقيبة وسيلاحظ القارئ الشبه العجيب بين الزمن القديم وهو قبيح بلا شك و الزمن الحاضر وما نظن ان هذا يغبط ذاك في شيء سماجة و قبحا .
إننا أمام نفس المشهد وان اختلف الزمان . بيننا وبين بداية استعباد الإعلام من قبل » المجاهد الأكبر » والزعيم الأوحد » و « سيد الاسياد » أكثر من خمسين سنة ولكن لم تتبدل الحال بل زادت سوءا وقتامة . لكأنه حكم علينا أن نظل عبيدا لصاحب الفخامة يذهب واحد ويتلوه آخر في سلسلة لا تنتهي من الخضوع والمذلة . . .
ما أشبه اليوم بالبارحة !
منذ تونسة الإذاعة التونسية بداية من 13 أوت 1956 وتأسيس التلفزة في 1966 استحوذ بورقيبة على هذين الجهازين عبر خطبه وتوجيهاته. لقد كانت لبورقيبة تدخّلات في الإذاعة والتلفزة. وكانت تدخّلاته تغلب على كلّ التدخّلات أي على كلّ التعلميات. وكانت المادّة الإعلاميّة سواء في الإذاعة أو في التلفزة تتضمّن مادّة قارّة تهتمّ بالنشاط الرئاسي ويتداول عليها مجموعة من الصحفيّين الذين تختارهم السلطة بدقّة لا يتجاوز عددهم الأربعة أو الخمسة.
أمّا الأحداث العالميّة فكانت تنتقى بصرامة وكان يحرّم إذاعة أيّ نبإ يتحدّث عن مظاهرات احتجاجيّة أو اضطرابات أو قلاقل في بعض البلدان مثل الولايات المتّحدة الأمريكيّة ويحرّم أيّ خبر عن بعض رؤساء الدول.
وكانت التعليمات تأتي من بورقيبة شخصيّا عندما يلاحظ شيئا خرج عن الخطّ أو يحتجّ على مضمون مّا أو يعبّر عن تعجّبه منه في أهمّ الأحداث الكبرى التي عرفتها البلاد. ولقد وثّقت المؤسّسة محاكمات 62 بعد محاولة الانقلاب في أرشيفها نقلا عن الفرنسيّين لأنّ الانطلاقة الفعليّة للبثّ التلفزيوني في تونس كانت سنة 66. ووثّقت محاكمة أحمد بن صالح بعد تجربة التعاضد سنة 1970 ومحاكمات النقابيّين في 78. وقامت بتوجيه الرأي العام بشكل فجّ وكانت أحداث الخميس الأسود أهمّها عندما تمّ تخوين النقابيّين وتحميلهم المسؤوليّة والزجّ بهم في السجن وهو الحال في أحداث قفصة سنة 1980 وانتفاضة الخبز سنة 1984.
وكان لغياب البدائل الإعلاميّة أن خلق فراغا إعلاميّا فمؤسّسة الإذاعة والتلفزة التونسيّة كانت تحتكر المشهد. وهو ما جعلها بوقا للدعاية للصوت الواحد مقابل تغييب الأصوات المعارضة كما حدث في انتخابات 1981. لقد كانت المؤسّسة في العهد البورقيبي خاضعة للرقابة التامّة والتوجيه الكامل من قبل النظام.
ولئن اتخذت بعض خطب بورقيبة نفسا تعليميّا بيداغوجيّا أحيانا إلاّ أنّه كان يكثر الحديث في خطبه وتوجيهاته عن استعمال القوّة والضرب بدون رحمة أو شفقة وضرب العنق إن لزم الأمر. بل إنّ بورقيبة كان كثيرا ما يصف أعداء الدولة بالمفسدين ويعلن بشكل صريح استعداده كرجل دولة لاستعمال مختلف أنواع القوّة. والقوّة في هذا السياق يقصد بها العنف كأداة مميّزة للدولة. ففي خطاب يتعلّق بولاية القيروان التي مثّلت نوعا من المعارضة الدينيّة لسياسة بورقيبة يقول: « لست مستعدّا للتقصير في الدفاع عن النظام ولن أترك الأمور تجري على عواهنها وسأواجه المفسدين بلا شفقة ولا رحمة وأضرب على أيدي الذين ثبت عداؤهم للدولة ».( آمال موسى، بورقيبة والمسألة الدينيّة، ص 153).
وقد كان بورقيبة يستمدّ شرعيّة هذا الخطاب العنيف من خلال حالة الانصهار التامّة بينه وبين الدولة التي كرّسها من خلال خطبه التي كانت تذاع على الهواء ومن خلال الحصة اليوميّة التي كانت تبثّ مباشرة قبل الأخبار التلفزيّة والمسمّاة « توجيهات الرئيس ».
وتقتات حالة الانصهار هذه من مختلف سمات الزعامة الوحيدة والرأي الواحد من خلال المنابر الرسميّة الخاضعة للمراقبة والتوجيه. ولذلك كان بورقيبة يركّز في كلّ خطبه على إظهار ما ينفرد به من بطولة ومن خصائص مثاليّة وأيضا على الإطناب في الحديث عن فضله الشخصي الخارق للعادة المتمثّل في كفاحه وحكمته التي قادت إلى الاستقلال كما نجد في أكثر خطبه وتوجيهاته. وكانت النتيجة الطبيعيّة لهذه الصورة التي ظلّ بورقيبة يروّجها عن نفسه في الستينات والسبعينات خاصة هي ممارسة وصاية كليّة تقريبا على مصير الدولة والمجتمع وبالتالي الحقّ في التحكّم في قنوات التأثير وتوجيهها من صحافة مكتوبة ومسموعة إلى مرئية في فترة لاحقة.
ذاك الماضي وهذا الحاضر . هل دار الزمان دورته ليتصل بعضه ببعض في حلقة لا بداية لها ولا نهاية من زمن الاستبداد الملوكي ؟. هل نحن في كابوس متصل طويل ؟ . هل للحلم الثقيل من نهاية ؟ .أم أننا لا نريد أن نفيق منه لأننا نكره اليقظة ونفضل عليها النعاس الممض القاتل ؟.