« هذا عمل إبداعي فني وليس واقعا » كثيرا ما استمع إلى هذه الجملة وهذه « الحقيقة » التي يقررها البعض دون معرفة أحيانا بكل تعقيداتها وتفاصيلها . في هذا السياق بالذات استمعت يوم 24 مارس عقب عرض الحلقة الأولى من مسلسل « فلوجة » الذي تعرضه قناة الحوار التونسي مباشرة بعد الإفطار اي في ساعة الذروة إلى حديث في إحدى الإذاعات الخاصة يؤكد صاحبه أن مسلسل « فلوجة» ( الذي أثار كثيرا من الغبار وصل إلى حد تقديم دعاوى قضائية لمنعه، بل إعلام وزير التربية لرئيسة الحكومة ورئيس الجمهورية بأمره قصد حظره) .. هو في آخر الأمر مجرد عمل فني وليس بالضرورة واقعا ولذلك فانه لا يجوز أن نعامله باعتباره نقلا للواقع ونمنعه بدعوى انه يقدم صورة مشوهة عن المجتمع التونسي. ومن هذا المنطلق الذي يفرق بين الواقع والخيال لا يجوز حظره.
لن نغامر كثيرا بمعطيات فنية وفلسفية معقدة حول قضية ارتباط الفن بالواقع، ولكن سنكتفى هنا ببعض الأفكار التي تثير تساؤلات مشروعة حول هذا الارتباط.
الاحتمال والحقيقة
لقد انبنى السرد بكل أجناسه سواء كان عرضا دراميا أو حكاية منقولة ،( لدينا وخاصة لدى غيرنا في الآداب الأوروبية التي عرفت العمل الدرامي في التراجيديا اليونانية القديمة أو الروائي بداية من القرن الثامن عشر إذا اعتبرنا بلزاك من رواده في أوربا ، أولدينا في القرن العشرين من خلال أول الأعمال المسرحية أو الروائية ) على معنى «الاحتمال » فلا شيء ممكن إلا إذا كان محتملا واقعيا يخضع إلى قوانين الطبيعة والحياة فلسفيا واجتماعيا والى قيم العرض ومحاكاة الواقع فنيا ( والتي همها إخفاء الجانب المصطنع للحكي وإضفاء طابع الواقعية عليه مما يجعلنا نبكي أحيانا ونحن نشاهد فيلما رغم علمنا بأنه مجرد خيال لا واقع ) من هذه الناحية كثيرا ما يكون الحكم على جدارة العمل الفني وقيمته من خلال تقيّده بقيم الاحتمال والواقع أي ان قيمة الوحدة السردية والسرد بشكل عام سواء كان دراما مصورة او حكاية مكتوبة لا يتأتى لها النجاح من خلال ما تريد تحقيقه فقط من متعة أو صدمة بل من خلال كونها محتملة أو غير محتملة تجد أو لا تجد تبريرها في الواقع الذي يوجد خارج الحكاية .
من المفيد أن نذكر هنا أن الناقد الفرنسي الشهير جيرار جينات في مقاله Vraisemblance et vérité المهم جدا في تبين علاقة الأدب بالواقع يقول إن الأدب الغربي قام في الأصل منذ أرسطو على معنى الاحتمال والاحتمال هو صورة للحقيقة أكثر واقعية من الحقيقة ذاتها إذ أن الحقيقة لا تصنع الأشياء إلا كما هي في حين أن الاحتمال يصنعها في العمل الفني كما يمكن أن تكون أو كما يمكن أن نراها من زاوية شخصية فنعيد تركيبها وإنتاجها لكن دون أن نقطع صلتها كليا بالواقع وإلا انقطعت صلتها بالحياة فتتحول بذلك إلى عمل غير جدير بالاهتمام لانعدام الصلة بينها وبين المعيش الذي يظل لدينا في حكمنا على العمل الفني من المقاييس التي نقيس بها جدارته وقيمته أو تصير « فنتازيا» لها قوانينها الخاصة المقطوعة تماما عن الحياة بقوانينها الطبيعة الفيزيائية والاجتماعية ( في الفانتازيا يمكن للإنسان أن يطير أو يكون رأسه بثلاث عيون).
ولذلك فإننا كثيرا ما نقيم الأعمال الفنية من خلال التناسب بين الحقيقة كما هي وبين « الحقيقة » الفنية الخاضعة في صلتها بالواقع إلى معنى الاحتمال رغم أنها مجرد خيال أي مجرد صورة منقولة من الواقع أي هي » كذب » بالمعنى الفني ف « كلمة كلب لا تعض » كما كان يقول فرديناند دو سوسور.
هل لمسلسل «فلوجة » صلة بالواقع التونسي ؟
من هنا نحن نتفهم رد الفعل حول الحلقة الأولى من مسلسل «فلوجة» فجملة الوقائع المعروضة في هذه الحلقة كلها تتسم بالعنف والجريمة والشذوذ والتطرف السلوكي الشيء الذي يجعل الكثير من المتفرجين يرون انها غير معبرة عن الواقع التونسي متعسفة عليه مشوهة له . فهل هذا صحيح ؟ . نحن في مسلسل فلوجة ( في الحلقة الأولى فقط ) بإزاء جملة من الظواهر تتسم كلها بالعنف والجريمة والتطرف السلوكي :
أطفال في سن مبكرة يدخنون ويتعاطون المخدرات ،عنيفون ومستهترون بلا أي احترام للمدرسة ،يعتدون على مدرستهم الجديدة في أول يوم من أيام الدراسة دون إي تبرير مقنع لسلوكهم غير رعبة العنف والهمجية لديهم ولا يصدر هذا السلوك عن تلميذ او اثنين بل على القسم كله تقريبا ذكورا وإناثا ، مدّرسة في أول سنة لها في مهنة التعليم هي أشبه بعارضة أزياء شبه بلهاء في علاقتها بالتلاميذ ، ولّي عنيف متسلط هو رجل شرطة لا يتورع عن استعمال سلاحه داخل البيت ، بنت في سن المراهقة تبيت خارج البيت دون أن يثير ذلك لدى والدها خاصة أي خوف على مصيرها ، قيّم مبتذل السلوك واللغة متحرش بالتلاميذ ، .طبيب مجرم على صلة بعصابات ترويج المخدرات . قد يكون لأحد عناصر هذه الصورة أو لبعضها علاقة بالواقع التونسي قد تكون محتملة في حياتنا ومعيشنا، ولكن جمعها في لوحة واحدة وفي مشهد واحد يبدو أمرا قليل الاحتمال، صلتها بالمجتمع التونسي في تنوعه أمرا بعيدا، بل هو اقرب للمجتمع الأمريكي كما تعرضه المسلسلات الامريكية التي يبدو أن المخرجة استلهمت منها أفكارها حتى ديكور غرف نوم الأطفال أو المراهقين.
وقد يكون من المرجح أن الصورة المخادعة التي توهمك بصلتها بالحياة ليس غرضها فضح واقع أو كشف أمراض اجتماعية من اجل معالجتها كما يدعي البعض لان هذا يحتاج الى رؤية للواقع التونسي المدرسي والعائلي أكثر عمقا وتنوعا وخصوبة فلا يقتصر على العنيف والمرضي والشاذ و يكون خاصة اقل مازوشوشية . بهذا المعنى فان أول عنصر يتعرض للخلخلة في مسلسل فلوجة هو المظهر التركيبي المعقد للواقع بوصفه خليطا متنوعا . فالعمل الفني حتى ولو كان خيالا هو دائما على صلة بعناصر مرجعية قابلة للإقناع لأنها تستهدف فعلا انخراط المتفرج في منطقها الداخلي واقتناعه بجداراتها بالتصديق . نحن على الأرجح مع هذا المسلسل أمام تحريك لنوازع العنف الكامنة فينا اكثر من اي شيء آخر.
إن الفن مهما أكدنا على طابعه الخيالي – مندمج في حياة المجموعة يُحيطها بعوامل ومؤثّرات اجتماعيّة عديدة مدروسة بدقة ومنتقاة بعناية دون أن يسلبه ذلك طبعا إرادته الشخصية طالما أنّ الفنّ لا ينحصر في اختيار تلك المواضيع الاجتماعية بقدر ما ينحصر في صياغتها والتّعبير عنها تعبيرا حرا ..
وهل يحتاج الفنّ حقّا إلى تصوير العنف والشذوذ ليغيّره ويعيد الانسجام إلى مدرسة منهارة وأسرة محطمة ومجتمع ينخره الفساد فيكشف عن إنسانيّته الّتي طمسها الانحراف والشذوذ ؟ نعم بلا شك عندما يقدم لنا رؤيا عن الواقع خصبة عميقة ثرية بعناصر التحليل والفهم بعيدا عن الإثارة و تحريك كل نوزاع الشر لدى الإنسان خدمة لأغراض تجارية فحسب .
ولا نحسب أن المتابعين للأعمال التي ينتجها سامي الفهري يقبلون عليها لاعتبارات فنية، بل لعل الدافع اليها هو أنهم يجدون فيها إشباعا لغرائز الجنس وتماشيا مع ميل أكثر الناس للجانب الفضائحى في مجتمع يسوده الكبت والحرمان والتضييق وهو في أكثر الأحيان متناقض زكيزفريني يسب الجنس ويقبل عليه، يمجد الأخلاق وقليلا ما يتقيد بها ، يدافع عن المراة ويمارس ضدها كل انواع الميز الجنسي. لا شك أن سامي الفهري كمنتج ذكي يستخدم باسمرار هذا الجانب ويطوره في أعماله الفنية ( الجيدة تقنيا ) خدمة لأغراض تسويقية لا صلة لها بجدية العمل الفني وعمقه وحثه على التفكير من جهة وارتفاعا بالذوق العام من جهة أخرى.
لا للمنع
أخيرا هل هذا يبرر منع مسلسل «فلوجة » ؟ قطعا لا .لأن العمل الفني الرديء يواجه بالنقد الصارم لا بدعوات العامة للمنع والحظر والتضييق التي تسب العمل، ولكنها لا تفوت فرصة لمشاهدته .وخاصة المراقبة القبلية للأعمال الفنية وإدخال السلطة السياسية في المعركة . المسألة هنا خطيرة جدا تمس من جوهر الحرية المهددة بطبعها هذه الأيام لأسباب ليس هذا مجال التبسط في شرحها.