لا تكاد تخلو سنة مدرسية منذ 2011 من خلاف بين جامعتي التعليم الأساسي والثانوي وبين وزارة التربية .ولا يكاد يخلو عام من اللجوء إلى التلويح بمقاطعة العودة المدرسية أو حجب الأعداد أو التهديد بمقاطعة الامتحانات ويظل الأولياء والتلاميذ يعيشون على وقع الخوف من سنة بيضاء في يشبه الكابوس الجاثم .
ومثلما هو الأمر في السنوات الماضية تعيش المدرسة التونسية هذه السنة على وقع حجب الأعداد والتهديد بمقاطعة الامتحانات في الأساسي والثانوي . خلاف يتدخل فيه الأولياء في هذا الجو المشحون فضلا عن الإعلام الذي يساهم في عملية الإصطفاف مع هذا ضد الآخر ويضاعف في توتير الأجواء. هذا مع الحكومة يعتقد أن الدولة لها كامل الحق في تطبيق القانون والوصول إلى اتخاذ عقوبات ضد المعلمين والأساتذة دفاعا عما يعتبرونه المصلحة الفضلى للتلميذ والمدرسة العمومية، فهي مطالبة بكسرة شوكة المربين الخارجين عن القانون ومنه القانون الداخلي للاتحاد نفسه. والآخر يرى أن النقابة من خلال تحركاتها الأخيرة تدافع عن مطالب مشروعة دفاعا يكفله القانون والدستور…
في هذا الجو يأتي خطاب رئيس الجمهورية ليزيد الطين بلة والمريض علة فلدى لقائه بوزير التربية محمد علي البوغديري يوم الجمعة 3 مارس 2023قال قيس سعيد ، إن « عملية حجب أعداد التلاميذ، التي تتم كل سنة تقريبا، باتت أمرا غير مقبول »، مضيفا إن « هذا الوضع طال أكثر من اللزوم ولا يمكن أن يتواصل وليتحمل كل واحد منا مسؤوليته لأن هذه الأجيال المتعاقبة لا يمكن أن تذهب ضحية لحسابات سياسية ولن نترك ابناءنا في وضعية الرهينة».
وفي ردها على خطاب سعيد عبّرت الجامعة العامة للتّعليم الأساسي في بيان لها يوم 5 مارس 2023، عن رفضها لتصريح رئيس الجمهورية قيس سعيد بشأن عملية حجب الأعداد، مؤكدة مضيها في تنفيذ قرار حجب أعداد الثلاثي الثاني عن الإدارة.
وأفادت الجامعة ، «أن المدرسين سيواصلون الدفاع عن مطالبهم بكل الوسائل، ومنها حجب أعداد الثلاثي الثاني عن الإدارة، مع اقرار حق التلميذ وولي أمره في الاطلاع على ورقة الاختبار ومعرفة أعداده. »واعتبرت الجامعة أن تصريح الرئيس سعيّد جاء « بنبرة تفوح منها رائحة التهديد وتأليب الرأي العام على المدرسين »، مستهجنة وصفه للتلميذ بـ «الرهينة »، في « محاولة للإساءة إلى المدرسين معنويا والتحريض عليهم».
لن نتوقف كثيرا عند تفاصيل الخلاف الأخير بين المدرسين ورئيس الجمهورية رأسا فهو ولئن كان أمرا غير مسبوق إذ قلما رأينا رئاسة الجمهورية تتدخل في هذا النوع من الخلافات النقابية فهو يبقى رغم ذلك في نظرنا الجانب الظاهر من جبل الجليد القاتل . ليس طبيعة الخلاف ولا تعقيداته ما يهمنا هنا. ما يعنينا في هذا المقال هو هذا الجو المشحون الذي تعيشها مؤسساتنا التربوية والذي زاده استفحالا تهييج رئيس الجمهورية للرأي العام والأولياء على المعلمين والأساتذة وهو بذلك ينكأ جرحا نازفا ويمس عصبا مريضا ويستغل غضبا سائدا ضد المعلمين . يستغل قيس سعيد أيما استغلال تعب الأولياء وتضمرهم وشعورهم بالعجز أمام أزمات المدرسة المستفحلة لمحاربة الاتحاد في هذه الحملة المفتوحة الذي يقودها ضد المنظمة الشغيلة وضد كل الأجسام الوسيطة .
ضرورة المصارحة
فلنترك ذلك جانبا ولنصارح بعضنا البعض لساعة واحدة ونقول إن مدرستنا العمومية وصلت الى الدرك الأسفل من الانحطاط فالتكوين والامتحانات والتقييم لدينا صارت أشبه بأكذوبة كبرى لا يعلمها غير من يعرفون الحال الذي وصل إليه نظامنا التعليمي. فعن أي تكوين أو تقييم يتحدث البعض؟ تلاميذنا (إلا أولئك الذين يدفع أولياؤهم من جيوبهم لتعليمهم خارج مقاعد الدراسة بواسطة الدروس الخصوصية التي يسبها الجميع ويتكالب عليها الجميع) في أكثر الأحيان لا يأخذون ولا يعطون، يسمعون ولا يتكلمون، نحشو رؤوسهم بالمعلومات دون أن يعالجوها بفكرهم أو يمارسوا الحديث عنها أو يعبروا عن آرائهم فيها ومواقفهم منها ويسعون لتطبيقها خارج جدران الدراسة .
مدارسنا لا تطور عقول الناشئة ولا تحسّن لغتهم، بل يكاد المرء يعتقد أنها في أكثر الأحيان تبلد أذهانهم. نعرف ذلك بالتجربة من خلال المستوى اللغوي الذي نعاينه من الابتدائي إلى الجامعة . نشعر سنة بعد أخرى بقصور لغة متعلمينا في جميع المستويات قصورا مثيرا للحيرة حقا. فاللغة التي يدرسونها لا أثر لها في حياتهم، لا اللغة العربية ولا الأجنبية حتى يعترينا الشك حقا في جدوى تدريس اللغات الأجنبية في الأقسام الأولى للابتدائي.
لقد ذهب التكوين والتقييم أدراج الرياح منذ سنوات وخاصة في الابتدائي بدعوى إجبارية التعليم إلى سن الخامسة عشرة. لقد أصبح الارتقاء قاعدة نظامنا التعليمي وهو لا يقوم في كثير من الأحيان لا على التعليم ولا على التكوين ولا على التقييم، بل على استبقاء التلاميذ في المدارس إنفاذا لمبدأ عظيم أفسدنا كل مضامينه وهو إلزامية المدرسة إلى حد بلوغ سن المراهقة. لم يعد للتقييم ولا للامتحانات من قيمة تذكر إلا في بعض المحطات الحقيقة التي ينتقى فيها المتفوقون الذين يمثلون بعد ذلك النخبة التي تحوز أفضل الأماكن في الجامعة مثل مناظرة «السيزيام » غير الإجبارية والتي تقود نسبة ضئيلة جدا من التلاميذ إلى المدارس النموذجية والتي يذكرني النجاح فيها بالنجاح في ما كان يسمى «الشهادة » في أول سنوات الاستقلال والى حدود الستينات.
الكثير من التونسيين لا يعلمون أننا أصبحنا في تونس نملك تعليما بسرعتين واحدة تمثلها المدارس النموذجية وفيها يكون التقييم حقيقيا وصارما ويطلب 12 من عشرين كمعدل للنجاح. والأخرى، التلاميذ متروكون فيها للفوضى والرداءة يتلقون فيها تعليما بائسا ويمرون من درجة إلى أخرى دون استحقاق وبواسطة الإسعاف الذي تحول إلى الشكل السائد في إسناد النجاح. ينجح تلاميذنا دون تقييم حقيقي ويدخلون إلى الجامعة بمستوى هزيل جدا ويتخرجون منها بمستوى لا يقل هزالا لتستقبلهم البطالة واليأس بعد ذلك. ما أثارني في هذه الأزمة بعيدا عن سذاجة العواطف وروح الحسرة الجياشة على إمكانية ضياع الامتحانات والوصول الى سنة بيضاء سنة بعد اخرى والملتبسة في كثير من الأحيان بمواقف سياسية ووجهة نظر متحيزة ضد العمل النقابي والاتحاد العام التونسي للشغل ليس خراب سنة واحدة، بل خراب المدرسة العمومية كلها جملة وتفصيلا. الأزمة الحقيقية التي نعيشها حقا ليس شبح سنة بيضاء فقط، بل في النتائج المستقبلية لهذه اللغة الحربية العدائية التي أشرت إليها والتي يشترك الجميع فيها ضد الجميع.
المدرسة التونسية أسيرة انقطاع الحوار والعنف المعنوي المتبادل.
لا شك أن هذا الجو من العدائية من كل الأطراف تقريبا والذي زاده خطاب رئيس الجمهورية الأخير استفحالا مرتبط بشكل مباشر وفوري بالظروف التي نعيشها، ولكنه يتجاوز الظرف الحالي بشكل من الأشكال لأنه يشير إلى الخراب الوشيك إن لم يكن ذلك الخراب قد حل بيننا بعد لكثير من القيم التي عشنا عليها ومنها تقديرنا وحبنا للمعلم و الأستاذ إلى درجة التقديس بلا أية مبالغة أو تضخيم أو لغة خشبية. كان الواحد منا إذا رأى معلمه في الشارع يختفي من أمامه رهبة وإجلالا. ولكن بمحبة لا حدود لها ( اذكر أن أستاذا لي في الجامعة قال لي وأنا أتخرج وأتأهب للتدريس في التعليم الثانوي «اجعل تلاميذك يخشونك، ولكن يحبونك في نفس الوقت « . )
معلمونا وضعوا في قلوبنا الرهبة منهم لصرامتهم في دفعنا إلى المثابرة والاجتهاد وعدم التسامح مع المتقاعسين منا، ولكن وضعوا أيضا فينا حبا صادقا لهم تضطرب به جوانحنا إلى اليوم وعلى الدوام حتى بعدما صرنا نحن أيضا معلمين أو أساتذة .. إن عملية التعبئة والتجييش التي تمارس ضد المعلم و الأستاذ اللذين هما بلا شك طرفان فيها ومسؤولان عنها سيكون لها أسوأ النتائج على المناخ العام في مدارسنا. وهذا ما يجعلنا نرى أن هذه اللغة العنيفة السائدة اليوم والتي أشرنا إليها من كل الأطراف أولياء وأساتذة ووزارة ورئاسة الجمهورية هي بلا شك أخطر بكثير من امتحان لم يقع في وقته او أعداد لم يطلع عليها التلميذ ووليه في الإبان .
إن ارتباط مستقبل المدرسة بصورة المعلم أو الأستاذ هو ارتباط يتجاوز بكثير مصير سنة دراسية رغم أهمية ذلك بلا شك ، إنه ارتباط كثيرا ما لا نراه لأنه ارتباط من الدرجة الثانية. إنه ارتباط رمزي. نحن الآن بصدد تخريب الرأسمال المعنوي الحقيقي الذي صنعته تونس والتي كانت تجعل من المعلم والأستاذ عنوان الحلم الجماعي ومدخلنا إلى المستقبل.
لقد شكلت صورة المربي طوال عقود مخيال التونسيين خاصة من كانوا في عمري من جيل الستينات وتحكمت بتصوراتهم حول التعليم والمدرسة. لا أعتقد أن التفاصيل التقنية التي أثارت الأزمة تمثل مشكلة لا حل لها : المشكلة الأخطر هو أن ينزل المربي في علاقته بالوزارة وبالأولياء إلى مستوى متدنّ ويخرب معاني المربي فيه، وأن يتحول الأولياء إلى أعداء للمربين وأن تضحي الحكومة بصورة الأساتذة هي أيضا.
لم يعد هناك لدى الدولة غير لغة الوعيد الذي لا ندري إلى حيث يصل في هذه المعركة المفتوحة إذا لم يتوفق الفرقاء في إيجاد حل للأزمة والتي قد تقود إلى انقطاع الصلة تماما بين النقابة والوزارة. أيها المعلمون و الأساتذة دافعوا عن مطالبكم، ولكن لا تنسوا أنكم مؤتمون على صورة المربي فيكم .
لا احد بوسعه أن يقدم لكم دروسا في الوطنية أو في الأخلاق او في حبكم لمهنتكم ولكن حذار أن تذهبوا في طريق تحقيق مطالبكم بأي ثمن وبصورة لا تستجيب حتى لقواعد العمل النقابي وللنظام الداخلي للاتحاد الذي رفض في كثير من الأحيان قانونيا الإمضاء على لوائحكم المهنية الصادرة عن هيئاتكم الادارية القطاعية حين تهددون بسنة بيضاء رغم انه يقول انه يساندكم في تناقض غريب يكشف كل مآزق الخطاب النقابي للمركزية ربما خوفا منكم ومن ثقلكم التمثيلي داخل المنظمة وفي المؤتمرات الوطنية او استثمارا لتحركاتكم في صراع مع الدولة صار مفتوحا هذه الأيام على كل الاحتمالات ..
حذار فانتصاركم بأي ثمن إن تحقق لا يعني دائما انتصار صورة المعلم فيكم أو صورة المدرسة فينا ..فلا تدافعوا عن المدرسة العمومية وانتم تعملون موضوعيا لصالح التعليم الخاص حتى وان لم يكن هذا غرضكم ومرادكم . ونحن بلا شك ننزهكم عن ذلك .