لا يمكن أن يغيب عن ذاكرتنا ممارسات الاستبداد التي جعلت من القضاء أداة للانتهاكات كما لا يمكن أن ننسى ما خاضه القضاة و المجتمع المدني من أجل بناء قضاء مستقل . ولذلك كانت الثورة في بعض وجوهها انتصارا للعدالة وكان اعتقادنا و لا يزال ان هذه الثورة لا تكتمل إلا بقضاء مستقل.
غير أنه تبين أن عوائق كثيرة تقف في وجه هذا المشروع في مستوى المؤسسات و الأشخاص و العقليات . ومن أجل الانتصار على تلك العوائق خاض القضاة أشكالا من النضال متعددة سواء قبل الثورة من خلال ما سمي وقتها ب » الهيئة الشرعية » عقب الانقلاب على المكتب المنتخب لجمعية القضاة التونسيين في 2005 والتي وقفت ضد نظام الاستبداد وتعرض أعضاؤها وهم 4 قاضيات وثلاثة قضاة من المكتب التنفيذي والهيئة الإدارية إلى شتى أنواع الهرسلة والتضييق أو بعد الثورة من خلال مساهمة القضاة أنفسهم في صياغة الباب الخامس من الدستور أو من خلال إرساء الهيئة الوقتية للقضاء العدلي ثم المجلس الأعلى للقضاء.
لم يكن أداء المجلس بلا شك في مستوى المأمول اذ اتهم بالتستر على الفاسدين من القضاة وبالمحاباة لأعضائه و غابت عنه بحسب التقارير الصادرة عن الجمعيات المهنية أساسا مبادئ الشفافية والديمقراطية التشاركية بعد ثبوت عجزه وتخلفه عن قيادة مسيرة إصلاح القضاء و تحقيق حلم كل التونسيين والتونسيات بقضاء محايد فاعل وناجز وبعث الأمل في إمكانية تجاوز كل السلبيات والعثرات السابقة وإنجاح تجربة التسيير الذاتي وتحقيق انطلاقة حقيقية لمسيرة الإصلاح القضائي.انتهى الفشل بنوع من الدمار الداخلي بإيقاف الرئيس الأول لمحكمة التعقيب عن العمل وهو عضو بالمجلس بالصفة ثم إحالة ملفه على النيابة العمومية من أجل قضايا فساد كثيرة ..
غير أن كل هذه المآخذ على المجلس لا يمكن أن تنفي انه يبقى واحدا من منجزات الثورة .. منجزا ديمقراطيا في مسار تركيز دولة المؤسسات وقوامها المؤسسة القضائية المستقلة رغم تشديدنا على ضرورة إصلاح أداء المجلس مما اعتراه من ضعف ووهن.
لا أحد بإمكانه أن ينكر اليوم الدور الذي يلعبه المجلس في الوقوف في وجه الانقلاب على الدستور وتغيير طبيعة السلطة القضائية المتضمنة في الباب الخامس من الدستور. من كان يتصور هذا الدور في عهود الاستبداد ؟من كان يتصور هذا السجال العنيف بين رئيس الجمهورية وبين المجلس الأعلى للقضاء الذي كان يتحكم قبل الثورة في اعضائه و قرارته في قصر قرطاج ومباشرة من بورقيبة او بن علي ؟ ها هو اليوم يرد على الشتيمة والتهديد والوعيد بالبيانات الهادئة المقتضبة و الصارمة. من كان يتصور هذه الإرادة القوية من المجلس ضد إرادة رئيس الجمهورية الذي استولى على السلطتين التشريعية والتنفيذية بحل مجلس نواب الشعب فعليا دون تسمية ذلك صراحة وإلغاء دور الحكومة التي جعل منها مجموعة من الأعوان التابعين له الخاضعين لأوامره وبعد أن ألغى شيئا كثيرا من السلطة القضائية بحل الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين و إلغاء دور المحكمة الإدارية في الرقابة على الأوامر الرئاسية والمراسيم اللادستورية وها هو الآن يريد أن يغير من طبيعة المجلس الأعلى للقضاء بتغيير قانونه بواسطة مرسوم خارج نطاق الدستور الذي لم يعد له أي وجود في ظل حكم فردي متمدد لا احد يعرف آخر ما يمكن أن يصل إليه من تفكيك لهياكل الدولة وتحطيم لكيانها ؟
إن الدفاع عن استقلال القضاء يستوجب اليوم الوقوف مع القضاء ضد طغيان السلطة السياسية وجبروتها والتي تريد أن تعيدنا إلى مربع قضاة السلطة وقضاء التعليمات.
إن القضاء المستقل هو جوهر ثورة قامت من أجل القطع مع الظلم والاستبداد واتخذت هدفا لها إرساء نظام ديمقراطي يقوم على التفريق بين السلط وتكريس علوية القانون وإقرار قيم العدالة والحرية والمواطنة،
لكل هذا فإننا مطالبون اليوم أن نكون سندا للقضاء وللقضاة ممثلين في المجلس الأعلى للقضاء فهو آخر معقل للسلطة الشرعية ضد سلطة الاستبداد..
فما لم تثمره الثورة كثيرا أثمرته قليلا، ولكنه بحجم بعض أحلام الثورة في وجود هذا المجلس القوي رغم بعض عيوبه والصامد رغم كل احترازاتنا السابقة على أدائه .