عرفت تونس المستقلة الى حدّ هذا التاريخ ثلاثة دساتير هي دستور 1959 و دستور 2014 و دستور 2022 و يلتقي الدستور الأوّل و الثالث في تركيز جلّ السلط و الصلاحيات في يد رئيس الجمهورية فدستور 2022 مستوحى جلّه فيما يتعلق برئيس الجمهورية و بالحكومة من دستور 1959 سواء في نسخته الأولى أو في تنقيح 1976 لذا كان الختم من رئيس الجمهورية في شخص الحبيب بورقيبة عام 1959 و في شخص قيس سعيد عام 2022 اللذين القى كل واحد منهما كلمة بهذه المناسبة هاجم فيها الماضي و ركّز فقط على سلبياته دون ذكر ما قد يكون فيه من إيجابي و يختلف عنهما دستور 2014 الذي كان غاية محرّريه تجنيب البلاد استبداد رئيس الجمهورية او غيره بالسلطة لذا ختمه كل من رئيس الجمهورية و رئيس الحكومة و رئيس المجلس الوطني التأسيسي… لكن يلتقي دستور 1959 و دستور 2014 في انهما نصّا صراحة على ان ختمهما يكون في جلسة يعقدها المجلس التأسيسي الذي حرّرهما.
1- دستور 1 جوان 1959 : بورقيبة و تعظيم الذات
يضبط هذا الدستور في بابه العاشر و الأخير المتعلّق بالأحكام الانتقالية تاريخ ختمه يوما و شهرا و سنة حسب التقويمين الهجري و الميلادي و يضبط أيضا دخوله حيز النفاذ . فينصّ في الفصل 63 على ان رئيس الجمهورية يختمه و يصدره « في 25 ذي القعدة 1378 و في غرّة جوان 1959 في اجتماع المجلس القومي التأسيسي الذّي يبقى قائما الى ان يتمّ انتخاب مجلس الأمّة و اجتماعه » و ينصّ الفصل 64 على دخول الدستور حيز التطبيق ابتداء من تاريخ إصداره طبق الفصل 63.
كان من المفترض مبدئيا ان يختم هذا الدستور الملك محمد الأمين باشا باي اخر ملوك تونس و يصدره كدستور للمملكة حسب صريح الفصل الثالث من الأمر العلي المؤرّخ في 9 ديسمبر 1955 المحدث للمجلس القومي التأسيسي و الذي جاء في طالعه « أنّ الوقت قد حان لمنح مملكتنا دستورا يحدّد نظام السّلط ويسيّر مختلف دواليب و حقوق المواطنين و واجباتهم » و » أنّه يتجه تمكين شعبنا من المشاركة مشاركة فعلية و بواسطة ممثّليه المنتخبين في إعداد القوانين الأساسية للبلاد » و أسند في فصله الأوّل للمجلس مهمّة سنّ دستور للمملكة.
لكن يوم 25 جويلية 1957 اتّخذ أعضاء المجلس القومي التأسيسي باسم الشعب التونسي و بوصفهم نوّابا عن الامّة التونسية وبوصف المجلس سيد نفسه وحرا في قراراته اتخذ قرارا نافذا يتضمّن ثلاثة مسائل جوهرية وحاسمة في تاريخ تونس الحديث :
1 – إلغاء النظام الملكي إلغاء تاما
2 – إعلان تونس دولة جمهورية
3 – تكليف رئيس الحكومة الحبيب بورقيبة بمهام رئاسة الدولة على حالها الحاضر ريثما يدخل الدستور حيز التطبيق واسندوا الى بورقيبة حالا لقب رئيس الجمهورية.
و بصفته رئيس الجمهورية التونسية ورئيسا للدولة المستمدّة من قرار المجلس القومي التأسيسي ختم الحبيب بورقيبة يوم 1 جوان 1959 « دستور الجمهورية التونسية عملا بأحكام الفصل 63 المذكور اعلاه و ألقى خطابا بحضور اعضاء المجلس القومي التأسيسي و بحضور رئيس المجلس جلولي فارس الذي سلّم نسخة من الدستور الى الرئيس الحبيب بورقيبة وقال له "هذه أمانة بين يديك ".
قال الحبيب بورقيبة في خطابه مخاطبا اعضاء القومي التأسيسي "إنّه لفضل من الله عظيم ان يكون يوم بروز الدستور الى الوجود و تحقيق امنية عظيمة و عزيزة على الشعب هو يوم ذكرى رجوع هذا الرجل المتواضع الواقف امامكم من المنفى و يكون في الوقت نفسه هذا اليوم يوم العيد القومي للشعب التونسي وللجمهورية التونسية ".
هكذا يعتبر الرئيس الحبيب بورقيبة ان ختم الدستور في يوم ذكرى عودته من المنفى هو من المصادفات التي قلما تحدث في التاريخ وان ذلك حدث بفضل ما يشبه المعجزة الإلهية قائلا في خطابه و متحدّثا عن نفسه في صيغة الغائب المفرد "قلت انه بفضل الله لأنّه قلّما ان صادف أنّ الأحداث التي مرّت بفرد من الأمّة تصبح جزءا من تاريخها حتّى كأنّ هذا الرجل تتجسّم فيه امّة " .
إنّ اختيار يوم 1 جوان لختم الدستور ليس مجّرد مصادفة هي من صنع العناية الالهية كما يزعم بورقيبة، بل بالأحرى و قرار سياسي مدروس مادام يوافق ذكرى عودة الحبيب بورقيبة الى تونس من المنفى هذه العودة التي اعتبرها تتجاوز شخصه و تهمّ الامّة التونسية كلّها وأصبح يوم 1 جوان من كل سنة عيدا وطنيا يسمى "عيد النصر" ظلّ الاحتفال به قائما الى حين ازاحته من سدّة الحكم يوم 7 نوفمبر 1987 و كان بعد مرضه في آخر ستيّنات القرن ماضي يغادر البلاد و يعود اليها يوم 1 جوان احتفالا منه بذكرى عودته من المنفى.
هاجم بورقيبة في هذا الخطاب الأسرة الحسينية و اعتبر مؤسّسها الحسين بن علي مستوليا على السلطة نافيا عنه صفة الحاكم للبلاد التونسية فقد قال « في البلاد التونسية عمد حسين بن علي » وقبل ان يتمّ الجملة تساءل : ومن هو هذا ؟ و أجاب" قطعة حبل جاء بها واد" ثمّ عاد للجملة الأولى متحدّثا عن حسين بن علي مؤسّس البيت الحسيني «عمد الى الاستيلاء على السلطة بعد تناحر و تقاتل و اعتبر البلاد ضيعة يورّثها من يشاء من ابنائه و احفاده ."
و لم ينظر الرئيس الحبيب بورقيبة بعين الرضا الى عهد الأمان و إلى دستور 1861 لأنّهما كانا نتيجة ضغط قناصل الدول الأجنبية و هو رأي يشاركه فيه كثيرون مثل الهادي البكوش الوزير الأوّل السابق أثناء حكم بن علي فقد كان صرّح في برنامج شاهد على العصر الذي بثّته قناة الجزيرة انّ دستور 1861 قرضته القوى الأجنبية لحماية جاليتها ولم يكن بإرادة شعبية. وهو الرأي الذي نقاشه المؤرخون وهونوا من شأنه معتبرين الدور الذي لعبه المصلحون التونسيون امثال خيرالدين وابن أبي الضياف فالإعداد له وتحريره ولا تزال تونس تعتبره واحدا من مفاخرها اذ انه دستور يعرفه العالم العربي الإسلامي.
2-ختم : دستور 27 جانفي 2014 تونس تنتصر الى الديمقراطية
تمّ في اكتوبر 2011 انتخاب اعضاء المجلس الوطني التأسيسي لغاية تحرير دستور جديد للدولة التونسية بدل دستور جوان 1959 و اثر بدء اشغاله ضبط هذا المجلس في القانون التأسيسي عدد 6 لسنة 2011 المؤرخ في 16 ديسمبر 2011 مهامه التي أوّلها و بصفة اصلية « وضع دستور للجمهورية التونسية » وبيّن في الفصل الثالث اجراءات المصادقة على مشروع الدستور و التي يقوم بها اعضاء المجلس فإن لم يصادقوا عليه يعرض « برمّته على الاستفتاء العام للمصادقة الإجمالية عليه بأغلبية المقترعين » و قد تمتّ المصادقة عليه بجلسة يوم 25 جانفي 2014 على النحو التالي :
– 200 صوت بنعم
– 12 صوتا بلا
– 4 اصوات محتفظين
إثر المصادقة قال مصطفى بن جعفر رئيس المجلس و الذي كان يرأس الجلسة : هذه مصادقة تشبه الإجماع و رفعت اثناء هذه الجلسة صورة النائب الشهيد الحاج محمد براهمي الذي اغتيل يوم 25 جويلية 2013 و قال احد النواب متأثرا هذه أحسن هدية للحاج و رفعت الراية التونسية و ردّد الحاضرون النشيد الوطني و تصافح النواب من مختلف التيارات السياسية و تعانقوا و تبادلوا القبل و يجدر ذكر المصافحة بين النائبين الخصمين الصادق شورو النائب عن حزب حركة النهضة و النائب المنجي الرحوي النائب عن حزب الوطنيين الديمقراطيين.
و عملا بأحكام الفصل 147 من هذا الدستور عقد المجلس الوطني التأسيسي يوم 27 جانفي 2014 جلسة عامة خارقة للعادة ختم اثناءها الدستور كلّ من محمد المنصف المرزوقي رئيس الجمهورية و علي العريض رئيس الحكومة و مصطفى بن جعفر رئيس هذا المجلس و الذي رحّب بالحضور و بالضيوف احمد المستيري و احمد بن صالح و مصطفى الفيلالي الذين كانوا اعضاء في المجلس القومي التأسيسي الذي سنّ دستور جوان 1959 و الذي حسب كلمة رئيس المجلس حرصوا على الحضور و المشاركة في الفرحة و حضر أيضا ضيوف أجانب القى بهذه المناسبة كلمة أكّد فيها على :
– تعلّق الحركة الوطنية بالدستور
– ضرورة تقييد الحكم بالدستور
– ان دستور 1959 مثّل تلبية وتحقيقا لفكرة دستور وطني يؤسّس للدولة الحديثة
– غلب على اعمال المجلس القومي التأسيسي غداة الاستقلال طموح بناء الدولة عبر سلطة مركزية قوية لكن للأسف على حساب الديمقراطية و استخلص بأنّه يمكن القولان دستور 1959 كان في اطاره التاريخي انجازا كبيرا.
3- ختم دستور 2022 …«سعيد والقلم وما يسطرون «
بثت القناة الوطنية الأولى مساء يوم 17 اوت 2022 وقائع ختم قيس سعيد رئيس الجمهورية للدستور و الكلمة التي قالها بمناسبة هذا الحدث. ولم نشاهد في الشاشة سوى رئيس الجمهورية يقف على جانبيه عونين من الحرس الجمهوري و هو يختم الدستور الجديد ثم يلقي كلمته بعد الختم واصفا الدستور الجديد بدستور الشعب قائلا « يتم ختمه اليوم و إصداره لينطلق به العمل حالا» ثم رفعه قائلا : « دستور 26 من شهر ذي الحجة الحرام من سنة 1443 الموافق ليوم 25 جويلية 2022» ثم بسمل و حمدل و صلى على اشرف المرسلين و وصف يوم الختم بأنّه من أيامنا الخالدة و هي كثيرة و ليس أقلّها يوم 25 جويلية من هذه السنة و من السنة التي قبلها و أضاف بأنّه بمعية شعبه العظيم صحّح مسار الثورة ومسار التاريخ فقد ساد الظلام لمدّة أكثر من عقدين و لعهود تتالت و استفحل الظّلم في كل مكان .
مجّد رئيس الجمهورية اعماله و انكر على سابقيه أيّ عمل إيجابي و تكلّم بمفرده و لم يحضر الختم كبار مسئولي الدولة كما لم يحضر ضيوف أجانب خلافا لما دأبت عليه الدولة التونسية عند ختم النصوص التأسيسية مثل العهود و الدساتير أو الاعلان عنها كان حفلا بلا حفل. . ظهر قيس سعيد مفردا منفردا مالئا الشاشة بوجوده واقفا وبيده القلم لكأنه «القلم » الذي أجراه الله بالقدر حين كتب مقادير الخلائق ومالئا التاريخ بفعله الحاسم فيه إذ صحح المسار وأنقذ الثورة ومكن الشعب من قول كلمته وتحقق عبره التقاء حاسم للشرعية بالمشروعية في تناغم غاب عن تاريخ تونس و تحقق في لحظة هي مصادفة ألاهية ( هل عاد بورقيبة حيا في أسوأ ما فيه؟ ) بين تدابير استثنائية في 25 جويلية 2021 أنقذت البلاد من الهلاك « استجابة لإرادة الشعب » وبين استفتاء في 25 جويلية 2022 أعاد إلى الشعب سلطته الشرعية. فهو اليوم «سلطة تأسيسية » بعيدا عن «مجلس الكذب والتدجيل والتزييف » يحكم نفسه بنفسه ويقرر مصيره فإذا كان 25 جويلية 1957 عيد للجمهورية بلا سلطة للشعب حقيقة فان 25 جويلية 2021 كان بدءا انطلاق جمهورية جديدة للشعب فيها الحكم والسلطة والقرار وكان 25 جويلية 2022 .
بمثل هذا الخطاب تتجسم في فكر سعيد إرادة هذا الكيان الموهوم يعلى من شانه في شبه تأليه خال من أي تناقضات معصوم جوهري وثابت . لا يهم إذا كان هذا الشعب الذي يتصوره قيس سعيد في ذهنه لا يتجاوز 30 في المائة من عدد المواطنين الذين فضل 70 بالمائة منهم عدم التصويت مقاطعة أو لا مبالاة . وبعد، فمن صوت يحكم باسمه القائد ومن لا يصوت لا حق له في أن يحكم . هو أفضل مدخل ممكن لحكم الفرد الذي يحكم باسم أغلبية لا يراها غيره في حين أنها أقلية، ولكن الرئيس سيصنع منها شيئا فشيئا عبر الاغراءات والمناصب أغلبية منتفعة فاعلة لتكون تابعة له يحمي بها حكمه حزبا له، حتى لو كان ينكر الأحزاب ويستهين بها . هي أقلية تحكم وأغلبية ليست من الشعب لا احد يمثلها غير احزاب متناحرة لا تزال تبحث في يأس عن المسؤول عن « العشرية السوداء».
كان الدستور المختوم في تلك الليلة دستور قيس سعيد .ولذلك لم يحضر غيره . كان الموكب موكبا بلا جمهور -إلا عبر شاشات التلفزيون – وعن بعد ، يشاهد ويرى ولا يشارك. هكذا يهمل قيس سعيد الأرقام ويحضر الجمع المبهم الذي يستهين بالأرقام يطوعها في ملعب لا يحتوى غير لاعب وحيد يلعب مع نفسه، ولكن ينتصر على الجميع ، خارسين وراء شاشاتهم يتألم الكثير منهم على حال البلاد ليناموا بعد ذلك هانئي البال بعد أن وزعوا على أصدقائهم غضبهم الجميل في الفيسبوك وحكمتهم الفورية في الفهم والتحليل والتوقع في انتظار أوقات أحسن .
4- هل عادت تونس إلى حكم الفرد
ان ختم الدستور هو مرحلة هامة و ضرورية تسبق نشره أو هو العمل الأخير قبل أن يدخل حيز التطبيق وليحصل العلم بنصّه و بمضمونه بعد أن يصبح قانونا من قوانين الدولة و الختم هو أيضا حدث هام في تاريخ الدول تحدّد له أجلا مسمى يتمّ خلاله موكب الختم والاصدار والاذن بالنشر.
لقد استقر العرف سواء كان في تونس او غيرها من دستور 1861 الى دستور 2014 على يكون ذلك خلال موكب رسمي احتفالي يحضره أعيان الدولة و ممثّلين عن الدول الصديقة و هو مبدئيا مناسبة لاستمرارية الدولة و لتواصل الأجيال دون قطيعة فيما بينها و دون إنكار للماضي ضمانا للاستقرار السياسي و الاجتماعي. لكن كان الإنكار السمة البارزة اوّلا في كلمة الرئيس الحبيب بورقيبة يوم ختم دستور 1959 وثانيا أثناء ختم دستور 2022 سواء من حيث عدم تنظيم موكب احتفالي جماعي يحضره كبار مسئولي الدولة و الضيوف الأجانب من الدول الصديقة او من حيث ظهور الرئيس زعيما روحيا مرسلا من العناية الإلهية لإنقاذ تونس دولة و بلادا و شعبا من الضلال.