كيف استطاع قيس سعيد ان ينفذ مشروعه السياسي في ظرف وجيز لم يتجاوز السنتين دون اية مقاومة تذكر؟ ما انفك هذا السؤال يلح علينا ونحن نشاهد ما ألت اليه البلاد … كيف استطاع ان يلغي بجرة قلم تجربة عشر سنوات من الثورة ؟ .كيف استطاع دفعة واحدة ان يستبدل دستورا صنعته الثورة على مدى ثلاث سنوات وشاركت في تصوره وصياغته وتجويده اطياف متعددة من الاحزاب والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني تخاصمت من اجله وتصالحت ثم خلصت بعد نقاشات هادئة احيانا وصاخبة أحيانا اخرى الى تفاهمات وتسويات هي افضل ما يمكن ان يصل اليه المتخاصمون حسما للخصومة استبدل سعيد كل ذلك بدستور كتبه بنفسه بعد ان الغى الدستور الذي حبره له خبراء القانون الذين اختارهم بمحض ارادته وكلفهم بالمهمة ثم انقلب عليهم . فقيس سعيد لا يعترف بغير نفسه ؟
كيف استطاع في نومة العسل التي غرق فيها الجميع تقريبا عما يحدث او في تواطؤ البقية ان يلغي عشر سنوات من بناء المؤسسات المنتخبة ؟ : حل المجلس الاعلى للقضاء المنتخب وعوضه بمجلس سمى اعضاءه بنفسه وهو الان في حالة شلل تام فرئيسه تقاعد وكثير من اعضائه فقدوا صفتهم التي دخلوا بها اليه فغادروه اذ لحقتهم حركة النقل . وقد اطال غياب المجلس يد وزيرة العدل لتحرك هذا القاضي او ذاك فنحن لا نفيق يوما الا على قاض نقل من الشمال الى الجنوب او من الجنوب الى الشمال او اخر اعفي دون أي تفسير غير تكهنات يتحفنا بها الكرانكة الذين ملاوا بضجيجهم الساحة الاعلامية و الذين لهم قول في كل شيء حتى أضحت أقوالهم ضربا من القراءة هي اشبه بالكهانة او استقراء خط الرمل .. وحل البلديات وجمد عمل الهايكا وحل هيئة الانتخابات والغى الهيئة الوطنية لمقاومة الفساد .وفي المحصلة لم يبق على شيء مما صنعته الثورة حتى حرية التعبير التي كنا نقول انها اعز مكتسباتنا بعد 14 جانفي واكثرها صمودا تكفل بها المرسوم 54 فاذا سيفة اضحى مسلطا على رقاب الصحافيين واخرهم الصحفي غسان بن خليفة أو الإعلامي المطارد محمد بوغلاب ..كما طال المدونين بل حتى عامة الناس الذين تضاءلوا وانكمشوا ك « جلد الحزن » بتعبير بلزاك …هكذا عاد بنا الزمان في دورة لعينة الى اوقات الخوف والخشية. …
كيف استطاع قيس سعيد ان يفعل كل ذلك دون اية مقاومة تذكر الى حد الان ؟
من الصعب جدا الاجابة على هذا السؤال الحارق في مقال بهذا الحجم خاصة وان الامر يبدو مستغربا بعد عشر سنوات من الثورة التي خلنا فيها ان تونس تركت بلا رجعة عهد الاستبداد. لقد ظننا اننا صرنا في مأمن من محنة ماضي بورقيبة وبن علي في سذاجة الجاهل بتقلبات التاريخ الذي لا يسير أبدا في خط مستقيم كما يعتقد بعض الحالمين بل تعتريه كما علمتنا كل تجارب الثورات في العالم تقلبات فهو يمشي في خط متعرج يتراوح بين الاسافل والاعالي ولا احد له القدرة فعلا ان يتنبأ على وجه الدقة بما قد يؤول اليه من انفراج قريب او من مزيد تأزم.
كيف لنا الان وهنا ان نفهم السهولة التي وجدها قيس سعيد في تنفيذ مشروعه السياسي منذ ليلة 25 جويلية 2021 بشيء من المنطق التي يضفي على الاحداث نوعا من التناسق ؟ ليس من السهل فعل ذلك غير اننا نزعم انه من الصعب ان نفهم ما حدث دون ان نضع في اعتبارنا العوامل التالية.
محاولة تفسير محدودة
هذه في نظرنا بعض العوامل التي ساهمت في حدوث ما حدث قبل 25 جويلية 2021
- غياب محكمة دستورية كان يمكن ان تصدر رأيها في دستورية أو عدم دستورية القرارات التي اتخذها قيس سعيد قبل 25 جويلية وفي تلك الليلة وما بعدها وهو امر تتحمل مسؤوليته كل الاحزاب السياسية الممثلة في البرلمان والتي لم تنتبه الى خطورة الامر الا بعد وفاة الباجي قائد السبسي وعدم وجود مؤسسة دستورية لمعاينة الشغور وحين افاقت من غفوتها وحاولت الخروج من مازق انتخاب الاعضاء بالثلثين وجدت قيس سعيد يتربص لها في زاوية انتهاء الآجال فافشل محاولاتها حين رفض ختم تعديل قانون المحكمة الدستورية ... وغياب المحكمة الدستورية الى حد الان امر مرشح للاستمرار فحتى المؤسسة الدستورية التي تصورها قيس سعيد بعد 25 جويلية ومن خلال دستوره وجعل أعضاءها يسمون بالصفة و من طرفه لم تر النور وقد يطول غيابها لأسباب يطول شرحها.
صراعات حزبية وسياسية جعلت من الحكومات تتساقط تحت معول الحسابات السياسية وعقلية الغنيمة مما عطل عمل اجهزة الدولة وخاصة في فترة الكوفيد التي يبدو ان قيس سعيد استثمرها ايما استثمار للإجهاز على الحكومة والبرلمان في ضربة واحدة و ليلة واحدة.
الاضرابات في كل القطاعات وعلى راسها قطاعات التعليم والصحة والقضاء وهي اكثر القطاعات التصاقا بحياة المواطن و التي ادخلت البلاد في فوضى عارمة والاعتصامات التي شلت عجلة الإنتاج في الحوض المنجمي خاصة والتي كان الاتحاد العام التونسي للشغل من محركيها او داعميها دفاعا عن حق الشغالين في اجور مجزية و المناطق المهمشة في حظها من التنمية او مناوءة للحكومة ومعارضتها وهي المحسوبة على الدوام على حركة النهضة وهو ما صرح به ا الامين العام السابق للاتحاد حسين العباسي حين اعترف في كتابة »تونس والفرص المهدورة » ان الاتحاد عارض بشكل علني وواضح وفي نوع من التحدي حركة النهضة التي نعتها بأبشع النعوت وكان اول من وصفها اتباعها بخفافيش الظلام ( من الغريب ان هذه المقاومة للسلطة صار الاتحاد يمارسها من خلال الصمت بعد 25 جويلية بحسب التعبير » الفكه » لنورالدين الطبوبي الذي اثار سخرية الجميع.
مجلس نيابي تحول الى حلية صراع وشوه لدى عامة الناس صورة البرلمان ودفع كثيرا من التونسيين الى الوقوع في فخ المطالبة بحله.
عدم نجاح الثورة في أن تحول الديمقراطية إلى مكاسب اجتماعية يستفيد منها عموم الشعب مما جعلها اقرب إلى الرفاه السياسي Un luxe à l‘occidentale والديكور الأجوف الخالي من أية منفعة في كثير من الأحيان وفي اعتقاد كثير من التونسيين غير المعنيين عموما بمنافع الديمقراطية لعدم ارتباطها بحاجاتهم المعيشية.
بعد 25 جويلية 2021
– انخراط اغلب الجمعيات والمنظمات الوطنية وكثير من الأحزاب في مباركة ما جرى ليلة 25 جويلية في خطأ استراتيجي بدأ البعض يفيق منه ولكن بعد ان جرى القطار في السكة التي رسمها قيس سعيد وبلغ سرعته القصوى في المؤسسات التي وضعها والتي لم يشارك في انتخابها غير عدد قليل من التونسيين.
– وجود أبواق دعاية من بعض رجال القانون حضروا في المنابر الإعلامية يبررون أفعال الرئيس وأقواله مهما كانت فداحتها و إن اختلفوا معه أحيانا في بعض التفاصيل والجزئيات. قبل اختفاء اكثرهم بعد صدور دستور 2022.
-إعلام عمومي تابع ألغى كل رأي مخالف ولم يترك إلا صوت الرئيس الذي يصل إلى جمهور الناس غير العارفين لا بالقانون ولا بالدستور ولا بالسياسة والذين من السهل أن يبتلعوا اي طعم طالما أن ظهورات قيس سعيد في الفيس بوك وهي الطريقة الوحيدة التي يخاطب بها التونسيين عدا المناسبات الرسمية توضع في غلاف من العاطفة الشعبوية التي تلعب على شعار مقاومة الفساد وتستثمر كره عامة الناس للطبقة السياسية دون تمييز.
-عدم وجود مقاومة حزبية ومن المجتمع المدني لحالة الفوضى الدستورية التي نعيشها وحالة الاستفراد بالسلطة غير المسبوقة فالمعارضة متكفلة بعضها ببعض . يميل اكثرها الى عدم تحمل نصيبه من المسؤولية عن العشرية الماضية ويفضل القاء المسؤولية على النهضة وحدها مما يجعل تقييم مرحلة ما بعد الثورة امرا عسيرا والذهاب الى حوار يجمع كل الطيف السياسي بلا اقصاء لاي طرف شبه مستحيل في الظرف الراهن كما ان اتفاقها حول برنامج سياسي موحد ومن ثم الى مرشح توافقي عنها في الانتخابات الرئاسية القادمة يبدو امرا هو اشبه بالحلم في وسط مناخ من الكوابيس المفزعة.
– نخبة تدعي انتسابها الى اليسار كذبا لا تؤمن لا الديمقراطية ولا بحقوق الانسان وهي مستعدة للتضحية بكل قيمها في سبيل تصفية خصومها السياسيين تناصر قيس سعيد وهي في غبائها لا تعلم ان الاستبداد لا يستثني أحدا فهو قد يبدأ بهذا الفصيل ولكن في سبيل استقراره مضطر الى محو كل صوت غير موال دون شروط مما يفضي بالتدريج الى تصحر الحياة السياسية وهو ما نرى اثاره ظاهرة اليوم.
– تعطل الشارع الاحتجاجي بشكل شبه كلي بعد مظاهرات عرفتها الأشهر الأولى بعد 25 جويلية ، فلئن تمكنت من خلق حالة توتر ظرفي إلا أنها عجزت كل العجز عن التأثير في عامة الناس الذين ظلوا اما موالين لقيس سعيد او في اغلب الأحيان غير معنيين بما يحدث... انعكس ذلك في نسبة المشاركة في كل الانتخابات التي جرت بعد 25 جويلية.
– ولاء الأجهزة الصلبة من جيش وشرطة للنظام مما جعله محصنا من كل محاولة لاستهداف الدولة ومؤسساتها في شكلها الحالي.
لا شك ان هناك عوامل متعددة أخرى ساهمت في خلق هذا الواقع الذي نعيشه ولكننا نرى ان أي تفسير يهمل هذه العوامل سيصعب عليه فهم ما جرى وما قد يجرى وان كنا لا ادري ما ستؤول اليه الأمور مستقبلا فكل الاحتمالات تبقى واردة.