قضية المنصف المرزوقي هي أعظم من حكم صدر ضد شخص حتى ولو كان رئيس جمهورية سابق وهي أفدح من حكم بأربع سنوات في قضية تتعلق بأمن الدولة.. إنها حالة مزمنة من حالات القضاء الفاسد والتابع.
كل المؤشرات تدل على اننا أمام نفس المعضلة التي نعيشها منذ الازل وهي هذا القاضي الطيع الفاقد لآي أحساس بالعدل في خدمة السلطان الجائر.
بلينا بذلك مع كل السلاطين والرؤساء من محمد الباي القاضي الذي كان يصدر أحكامه بالإعدام وهو في جنانه الى بورقيبة الذي كان يرهب معارضيه بيد قضاة فاسدين اختزلهم المخيال الشعبي في صورة وكيل الجمهورية ذائع الصيت محمد فرحات ثم جاء بن علي فحوّل القطاع بكامله تقريبا في خدمته حتى صار جهازا تابعا له حطم بواسطته ألاف المصائر وقضى على الآلاف من الابرياء بالجوع والتشرد والعذاب .
حين جاءت الثورة فحسبنا أن الأمر قد تغير فإذا الأمر على حاله تقريبا وإذا المحاكم وعلى رأسها محكمة التعقيب سوق ودلال تباع فيها القضايا وتشرى بشهادة القضاة أنفسهم بواسطة الرئيس الأول الذي جعل من المحكمة معابر للسياسيين يصولون ويجولون فيها ولا رادع حتى انفضح أمره فصار إلى المصير الذي يعرفه الجميع.
في هذا الجو خرج علينا قيس سعيد بخطابه الذي يعد بالعدل والإصلاح وجعل من القضاء موضوعه الأثير. ظن بعض السذج إن القضاء سينصلح أمره على يديه فإذا هو من جديد في بيت الطاعة يطلب منه فيطيع.
لن نتوقف كثيرا عند محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري والزج بالمدونين والصحفيين في السجن بتهمة أخرجها الاستبداد من زمن الاستعمار وأطلق عليها اسم « الفعل الموحش ضد رئيس الجمهورية » في حين انه لا أحد يعرف أو يعرّف بدقة هذا الفعل الذي أصبح سكينا على رقبة كل صحفي ومدون وحتى مواطن عادي وضع خربشة في صفحته على الفيسبوك.
نريد فقط أن نتوقف عند قضية الرئيس الأسبق محمد منصف المرزوقي.
قضية منصف المرزوقي التي عرت الوجه القبيح للقضاء التونسي
أصدر قاض من قضاة التحقيق في المحكمة الابتدائية بتونس بطاقة جلب دولية بحق رئيس الجمهورية السابق محمد المنصف بحسب ما أعلن مكتب الاتصال في المحكمة.وكان المرزوقي عبر في مداخلة تلفزيونية على قناة « فرانس 24″ في 12 أكتوبر (2021 عن فخره إثر قرار المجلس الدائم للفرنكوفونية تأجيل القمة الفرنكوفونية لعام بعد أن كان مبرمجاً تنظيمها في تونس خلال يومي 20 و21 نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 في جزيرة جربة.
وإثر هذا التصريح طلب الرئيس التونسي قيس سعيد لدى إشرافه على أول اجتماع لمجلس الوزراء في 14 أكتوبر الماضي من وزيرة العدل ليلى جفال بـ « فتح تحقيق قضائي بحق من يتآمرون على تونس في الخارج »، مشدداً على أنه « لن يقبل بأن توضع سيادة تونس على طاولة المفاوضات، فالسيادة للشعب وحده ». وأضاف الرئيس خلال الاجتماع أن « من يتآمر على تونس في الخارج يجب أن توجه له تهمة التآمر على أمن الدولة في الداخل والخارج».
وأفاد المتحدث الرسمي باسم محكمة الاستئناف الحبيب الترخاني بأنه « تم فتح تحقيق بخصوص التصريحات الصادرة عن رئيس الجمهورية السابق منصف المرزوقي في فرنسا، استناداً إلى المجلة الجزائية وبناء على الإذن الصادر من وزيرة العدل ».
ومن البين انه بناء على الطابع السياسي الواضح للقضية وارتباطها بمسائل لا تتجاوز القول والتعبير عن موقف مما يحدث في تونس بعد 25 جويلية 2021 والتدابير الاستثنائية التي اتخذها رئيس الدولة ونظرا إلى الارتباط الظاهر بين صدور بطاقة الجلب وطلب رئيس الدولة في مجلس وزراء ملاحقة المنصف المرزوقي مع تكييف التهمة ضده واعتبارها من قبيل التآمر وهي تهمة في غاية الخطورة يمكن ان يحكم فيها بالإعدام ، فان هذه البطاقة وضعت وقتها محل تساؤل استقلالية القرار القضائي ونتيجة لذلك كان من المستحيل أن تستجيب الانتربول الى الطلب التونسي مما جعل البطاقة مجرد حركة سياسية للاستهلاك المحلي أكثر من أي غرض أخر .غير انه استهلاك له تبعات مدمرة على سمعة القضاء التونسي دوليا.
كان من الغريب حقا أن يصدر قاض تونسي مثل هذه البطاقات فمن المفروض أن يكون على علم بكل المعطيات القانونية المذكورة مما سيضر بسمعة قضائنا المتهم داخليا وخارجيا بعدم الاستقلالية والتبعية للسلطة السياسية وتنفيذ أوامرها.
غير أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد فلقد تفاجأ الجميع يوم الأربعاء 22 ديسمبر2021 بصدور حكم قضائي ضد المرزوقي بتهمة الاعتداء على أمن الدولة الخارجي على معنى الفصول 61 و61 مكرر و 62 من المجلة الجزائية وهي من قبيل الجنح وعقوبة هذه التهمة بحسب ما هو مقرر بالمجلة خمسة سنوات سجنا في الاقصى .
لا أحد علم بأمر هذه القضية وبحسب ما قاله المرزوقي فإنه لم يقع استدعاؤه في اي طور من اطوار القضية . لا احد علم بتعيين جلسة للقضية جرى الأمر في كنف السرية ..ثم طلع علينا الإعلام القضائي بنص طويل عريض كان عبارة عن حكم إدانة وليس أعلاما قضائيا محايدا ليعلمنا بالحكم ولتتناقله وسائل الإعلام التونسي والأجنبي.. كان الأمر مسخرة بأتم معنى الكلمة.
كان الحكم صادما حقا حتى لمن لم يتعودوا على الدفاع عن المرزوقي.
ومن الواضح أن الحكم كان يستهدف مجموعة من الأغراض المتضافرة :
(1) منع المرزوقي من العودة إلى تونس وهو الذي صرح مرارا بأنه يعتزم العودة إلى الوطن حين يستعد بالكامل لها وتسنح فرصتها.
(2) إيجاد أعداء وهميين « متواطئين » مع الخارج من اجل خلق تعاطف مع انقلاب بدأ يترنح حين بدأ الجميع يكتشفون جانبه الأخرق.
(3) الهاء عامة الناس بقضايا جانبية بعيدة عن همومهم وعن الكارثة التي قد تحل بهم قريبا مع هذه الإجراءات التي يحملها لهم قانون مالية بدأ قيس سعيد يصرح بما فيه من ويلات لهم.
(4 ) تأكيد قيس سعيد على وطنيته في مواجهة «الخونة » وهو خطاب دأب عليه ويصدقه ويروج له من أعمى الحقد قلوبهم على الإسلاميين وعلى ما يتهمونهم بمولاة الإسلاميين وحجب عنهم رؤية الوجه البغيض للانقلاب.
(5 )الضغط على القضاء وإرهابه تحضيرا لاستعماله في المستقبل على طريقة بن علي فمن الغريب جدا أن يسكت القضاة من مجلس أعلى للقضاء وهياكل مهنية عن فضيحة الحكم الصادر ضد المرزوقي .فمن الواضح أن الهرسلة اليومية التي يمارسها قيس سعيد ضد المجلس والقضاة لم تترك لهم أي فرصة للاهتمام بغير مصيرههم .فلا نظن أن المجلس او غيره من الهياكل القضائية اصبح قادرا على الدفاع عن أية قضية غير فرار الأعضاء والقضاة بجلودهم قبل نهاية عهدة المجلس في بداية السنة المقبلة وفي ظل الخوف الذي زرعته السلطة في صفوفهم وهم المهيئون بطبعهم إلى انكفاء اغلبهم ممن ليسوا بالضرورة موالين للسلطة على أنفسهم عند أي خطر طلبا للسلامة.
(6) إعطاء قيس سعيد الانطباع لأنصاره بان القضاء قادر على البت بالسرعة المطلوبة ودون تعقيدات على كل من » أجرموا في حق تونس » وهو الشيء الذي جعل بعض أنصاره من مرتزقة اليسار الاستئصالي يطالبونه بحسم الأمر بنفس السرعة في ملفات » الجهاز السري » والتسفير بل لعله سيجعل هذه السرعة في البت الأسلوب المعتمد في الحسم في قضايا أخرى أكثر خطورة تتعلق بإسقاط القائمات الانتخابية أو حتى بحل الأحزاب ومحاكمة بعض السياسيين الذين بدأ يلوح بمحاكمتهم في خطبه النارية الأخيرة.
(7) اعتماد قضية المرزوقي في علاقة بسرعة البت بالون اختبار. فمن الواضح أن قضية المرزوقي إذا ما مرت دون مقاومة جدية فإنها ستكون فاتحة لأحكام أخرى لا أحد يدري مداها خاصة وان قيس سعيد ذاهب بلا شك إلى مزيد الهروب من الأمام في ظل العزلة التي يعيشها ولا نرى انه سيواجهها إلا بمزيد العناد.
هذا ما وقع مع الرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي الذي قال في تعليق له على الحكم » إذا كان في مقدورهم أن يفعلوا هذا مع رئيس سابق فماذا يمكن أن يفعلوا مع مواطن عادي ؟ ».
بمقدرهم أن يفعلوا كل شيء.. فإذا فقد القاضي أخلاقه وضميره وصار كل همه ان يبتز الدولة من اجل تعظيم أجره كأعظم مشكلة في وجوده فاعلم أننا ذاهبون إلى الخراب وبئس المصير!
ارحموا القضاء التونسي أيها القضاة فما فيه يكفيه.