كنت صغيرا ورأيت أمي تبكي فسألتها السبب فقالت " أما رأيت الفرنح مروا من هنا ؟. وهؤلاء لا يخرجون إلا بالحرب "/
عبد العزيز الثعالبي
لا نستغرب من مساندة فرنسا غير المشروطة للكيان الصهيوني في جرائمه ضد الإنسانية و خاصة ضد الشعب الفلسطيني لأنّ قواسم مشتركة تجمع بين فرنسا الاستعمارية والحركة الصهيونية و هذه القواسم هي تاريخ حافل بالجرائم الاستعمارية وأساليب الاستيطان و طرد السكان الأصليين من أراضيهم و تجهيلهم و استعبداهم سواء في الجزائر او في تونس.
وكان عبد العزيز الثعالبي من أوائل من صوروا جرائم الاستعمار الفرنسي في تونس قدم الثعالبي مشاهد مؤلمة عن كل تلك الشنائع في أكثر الكتب إيلاما وهو كتاب" La Tunisie martyre تونس الشهيدة " الصادر سنة 1920 وهو المؤلف الذي كان بورقيبة يقول عنه انه كان يقرأه وهو يبكي . غير أن لفرنسا وجوها مختلفة من خلال كتابات أدبائها ومفكريها حول فكرة الاستيطان والاستعمار.
سنقدم في هذه الورقة المختصرة صورتين من مواقف كاتبين من أشهر كتاب فرنسا في القرن التاسع عشر من قضية الاستيطان وقد زارا هذان الكاتبان الجزائر الخاضعة وقتها للاستعمار الفرنسي قبل وصوله إلى تونس وهما Alexandre Dumas الكسندر دوما و Gustave Flaubert قوستاف فلوبار.
الكسندر دوما في الجزائر
في عام 1830، احتلّت فرنسا الجزائر و فرضت على الجزائريين قانون الأهالي.كان من نتائج الهجمة الاستعمارية الشرسة التي تعرضت لها البلاد تفقير الجزائريين والاستيلاء على أراضيهم وإخراجهم من مدنهم بالقوة مع غلق المدارس أمامهم واقتصارها على الفرنسيين ( وهي نفس الحالة التي يصفها عبد العزيز الثعالبي في كتابه "تونس الشهيدة " ). وبذلك فإن رسالة فرنسا في الجزائر كانت هي التجهيل وليس التعليم، مما يمكّن الفرنسيين من اخضاع سكان البلاد.
بعد سنوات من دخول الجيوش الفرنسية الى الجزائر زار الوزير الفرنسي duc de Montpensier الدوق مونبونسيي البلاد .وقد كان هذا الوزير مع اخوته قد شاركوا في الحملة الاستعمارية على الجزائر وعند عودته الى فرنسا عبّر عن إعجابه بجمال المناطق التي مرّ بها و عبّر أيضا عن أسفه لعدم إقدام الفرنسيين على الاستيطان في الجزائر رغم الامتيازات التي تقدمها الحكومة الفرنسية للمستوطنين فأشار عليه احد مرافقيه بأنه لو كان مكانه لقام بما يلزم ليرسل الكاتب ألكسندر دوما ( أسود البشرة) الى الجزائر و يطلب منه كتابة مجلدات عن زيارته مليئة بالقصص المشوقة التي عرف بها و التي من شانها التشجيع على الاستيطان فأعجب الوزير بهذا المقترح و عرضه على دوما الذي قبل الفكرة فوضعت الحكومة الفرنسية باخرة حربية على ذمته ( باخرة عسكرية تستعمل ضد الهجمات في عرض البحر ) وهي Le Véloce فيلوس زار بها الجزائر[1] و تونس سنة 1846 ، كانت رحلة دوما المدعومة رسميا من قبل الجمهورية الفرنسية رحلة استعماريّة، وظّف فيها اسلوبه المشوق لخدمة إغراض استعمارية استيطانية , ولعل زيارته الى تونس ايضا في نفس الرحلة كانت تمهيدا لدخول فرنسا الى تونس ولم يتأخر الامر كثيرا اذ ستلحق تونس بالجزائر في 12 ماي1881.
يقول المؤرّخ والدبلوماسي التونسي الأسبق، محمد فريد الشريف، في مقدّمة كتابه « رحلة ألكسندر دوما في تونس 1846″، الذي خصّصه لترجمة الجزء المتعلّق بتونس من كتاب دوما المذكور: " الرّحلة البحريّة للجزائر المحتلّة سنة 1830 ومنها إلى تونس التي قام بها ألكسندر دوما على متن باخرة عسكريّة بتكاليف باهظة والتي كانت مثيرةً للجدل حتى داخل البرلمان الفرنسي، تثير الشبهات حيث أنها تمّت أكثر من ثلاثين سنةً قبل الحماية الفرنسيّة لتونس 1881، وكأنها بعثة -مخابراتيّة- تدرسُ عن كثبٍ ‘أحوال الرعيّة’ وقابليّتها للاحتلال الفرنسي " [2]
فلوبير المناهض للاستعمار
لكن ليس كل الفرنسيين على شاكلة دوما فمنهم من عارض سياسة فرنسا الاستعمارية مثل Gustave Flaubertالذي كان زار الجزائر هو ايضا و تونس سنة 1858 عندما كانت الجزائر محتلة و عاين سياسة الاستيطان و مساوئها على الشعب الجزائري الذي افتكت منه اراضيه و مساكنه و ومكن منها الغريب القادم من وراء البحار و تحوّلت مساجده و جوامعه الى كنائس. هذا هو الفيلسوف العقلاني والمناصر لمبادئ الحرية. كان مناهضا لسياسة فرنسا الاستعمارية في الجزائر و في غيرها من بلدان الشرق.
و في رسالة الى خليلته كتب لها يومياته عن الجزائر معلقا على انتصارات الجيش الفرنسي بالجزائر هناك:
يقول فلوبير "لا افرح أبدا بانتصاراتنا على العرب لأني احزن لهزائمهم .أحب هذا الشعب الصارم و المصمم والحيوي [3] "
و تحت أسوار مدينة قسنطينة الجزائرية لاحظ جمعا من العرب الفقراء وهم السكان القدامى لهذه المدينة وقد اطردوا منها فهم المنبوذون حلّ محلّهم المستوطنون فسكن اهل البلد اكواخا شبيهة ببيوت الكلاب مبنية من الحجر و الطين ذات ارتفاع بين ثلاثة و أربعة أقدام.
يقول فلوبير" لخليلته تحت حصون قسنطينة الساحة الرمادية المنحنية المليئة بالعرب، أكواخهم في شكل مساكن للكلاب لها سقوف .إنها من الحجارة والطين على ارتفاع ثلاثة آو أربعة أقدام . والمكان في طريق صاعد حاد، يبدو الرجال فيه ككتل بيضاء متسخة متحركة وليس هناك شيء أكثر سمرة غير وجوهم وأيديهم وأرجلهم . إنهم على درجة عالية من الفقر واللعنة وتشتم منهم رائحة الكائن المنبوذ. هؤلاء هم سكان قدماء اطردوا خارج المدينة أما بالنسبة إلى فكرة الوطن بمعنى حيازة قطعة من الأرض على الخارطة ومفصولة عن الأخرين بخط احمر او ازرق .. فلا إن الوطن هو بالنسبة اليّ الارض التي أحبها أو احلم بها او أحس فيها بالراحة . [4].
ولا شك ان المواقف المناهضة للاستعمار لدى فلوبير ترتكز على بعض القناعات المتجذرة بقوة في فلسفته الشخصية : الحذر الشرس من كل الأفكار المسبقة التي تثير المثل الأعلى القومي وشك جذري في الأساس الصحيح الذي قامت عليه فكرة الحدود التي يعتبرها اعتباطية و الحلم بوطنية عالمية وحب الحضارات البدوية وكره شديد للامبريالية الغربية.
هوامش
Voyages en Tunisie- Chateaubriand, Dumas, Flaubert, Maupassant-[1]
Textes édités par Pierre-Marc de Biasi. CNRS EDITION. Paris 2020 p 110
[2]الكسندر دوما كاتب الروائع الادبية في خدمة الاستعمار الفرنسي في تونس « الرصيف » 23 جوان 2022
Voyages en Tunisie- Chateaubriand, Dumas, Flaubert, Maupassant-p 271[3]
Voyages en Tunisie p 272[4]