قال إبراهيم بودربالة يوم 13 مارس الجاري وعقب انتخابه رئيسا لمجلس نواب الشعب في الثامن من نفس الشهر إن « المجلس التشريعي، قد انطلق اليوم بصورة فعلية، إثر الانتهاء من انتخاب رئيسه ونائبيه وإنه »سيقوم بصلاحياته الدستورية المتمثلة في سنّ القوانين، إضافة إلى صلاحياته الرقابية » وفي نفس السياق صرح بودربالة يوم 14 من نفس الشهر أن الصلاحيات التشريعية » أُحيلت على المجلس رسميا، بداية من الاثنين 13 مارس » وهو ما يعني نهاية زمن المراسيم التي عشنا على وقعها منذ 25 جويلية 2021.
ولا ندري إذا كان السيد بودربالة على علم بمقتضيات دستور 2022 في ما يخص عمل البرلمان بغرفتيه لان تصريحه يستبق الأمور ويعلن عن شروع المجلس في ما لا يمكن له الشروع فيه بشكل كامل ..و يبدو أن السيد رئيس البرلمان في تلهفه على المنصب وعلى المسؤولية يجري وحده فيسبق نفسه وهو في سباقه لنفسه ينسى بعضا مما يصرح به إذ نلاحظ أن التصريح الثاني لبودربالة يتعلق فقط بصلاحية البرلمان التشريعية و مفاده أنها آلت إلى مجلس نواب الشعب و لم يأت فيه ذكر للصلاحية الرقابية وهو ما يعني أن المجلس ليس بإمكانه ممارسة هذه الوظيفة الأخيرة الآن.
فإذا تركتنا الوظيفة الرقابية ( نعود إليها لاحقا) التي أعلن عنها بودربالة ثم أسقطها من حسابه بعد ذلك فهل صحيح أن مجلس النواب سيمارس صلاحياته التشريعية مباشرة بعد صياغة نظامه الداخلي ؟
1) صلاحيات مجلس نواب الشعب التشريعية منقوصة
الوظيفة التشريعية في دستور 2022 يضطلع بها برلمان ذو غرفتين يتمثلان في مجلسين نيابيين مرتّبين في الأولوية مقرّ كلّ واحد منهما بتونس العاصمة و لا يمكن الجمع بين عضوية المجلسين. وجدير بالتذكير في هذا السياق أن البلاد لم تعرف في دستور 2014 نظام الغرفتين Bicaméralisme هذه الصيغة البرلمانية التي كانت موجودة في دستور 1959 بعد التحوير الذي أدخل عليه في 1 جوان 2002 و الذي نص على غرفة ثانية للبرلمان وهي مجلس المستشارين وتم حله مباشرة بعد الثورة في 23 مارس 2011 .
والغرفتان في دستور 2022 هما :
أوّلا : مجلس نواب الشعب وينتخب أعضاؤه انتخابا عاما حرّا مباشرا لمدّة خمس سنوات كاملة و عملا بأحكام الفصل 107 جديد من القانون الانتخابي انتخب أعضاؤه بالاقتراع على الأفراد في دورتين انتظمتا يوم 17 ديسمبر 2022 و يوم 29 جانفي 2023 و هي أول تشريعية تتمّ في ظل 2022دستور.
ثانيا : المجلس الوطني للجهات و الأقاليم و يتكوّن من نواب منتخبين عن الجهات و الأقاليم و لم يتمّ إرساؤه بسبب عدم انتخاب أعضائها و صدر في شأنه المرسوم عدد 10 لسنة 2023 المؤرخ في 8 مارس 2023 المتعلق بتنظيم انتخابات المجالس المحلية و تركيبة المجالس الجهوية ومجالس الأقاليم.
وتوجد صلاحيات تشريعية مشتركة بين مجلس نواب الشعب و المجلس الجهوي للجهات و الأقاليم تخصّ قانون المالية و مخططات التنمية من حيث المصادقة عليها أو من حيث الرقابة على تنفيذها فلا يمكن دستوريا لأحدهما منفردا أن يمارسها اذ ينص الفصل 84 من الدستور على أن مشاريع القوانين المتعلقة بميزانية الدولة و مخططات التنمية الجهوية و الإقليمية تعرض وجوبا على المجلس الوطني للجهات و الأقاليم.
ويتبيّن هنا أن الغرض من هذا العرض الوجوبي المزدوج هو إشراك الجهات و الأقاليم في تصور وصياغة مشاريع التنمية في الجهات الداخلية كما تساهم الغرفة الثانية في مناقشة مشروع قانون المالية وفي كلتا الحالتين لا تتمّ المصادقة إلا بأغلبية الحاضرين بكل من المجلسين على ألا تقل هذه الأغلبية عن ثلث أعضاء كل مجلس ..
وهكذا فان الوظيفة التشريعية في دستور 2022 تشمل جوانب لا يختص بها مجلس نواب الشعب وحده. و على هذا الأساس فان كل القوانين التي تتعلق بمشاريع التنمية وهي أولوية قصوى في هذا الظرف الاقتصادي الصعب الذي تعيشه البلاد كما قانون ميزانية الدولة لعام 2024 لا يمكن دستوريا مناقشتها ثم المصادقة عليها إذا لم يتم إرساء الغرفة الثانية للبرلمان و هي المجلس الوطني للجهات و الأقاليم.
2 ) لا رقابة لمجلس النواب على الحكومة
أولا من الجدير بالملاحظة في باب الوظيفة الرقابية للبرلمان الجديد أنه لا يمكنه أن يراقب عمل رئيس الجمهورية ولا أن يسائله ولا أن يعزله في حالة الخرق الجسيم فقد اختار قيس سعيد أن يحذف من دستوره كل إمكانية دستورية لمحاسبته بأي شكل من الأشكال كما كان الأمر في دستور 2014[1] فهو بهذا المعنى فوق مؤسسات الدولة جميعا فهو يتحكم فيها كلها عقدا وحلا : يسمي الحكومة ويحلها، يسمي الوزراء ويقيلهم فضلا عن تسمية وإقالة كل المسؤولين السامين في الدولة . وهو بإمكانه حل مجلس النواب ومجلس الجهات والأقاليم وهو فعليا الذي يسمي القضاة إذ بمقدوره الاعتراض على أي تسمية صادرة عن مجلس القضاء المؤقت ( وربما كان الأمر هو نفسه مع المجلس الأعلى للقضاء في صيغته الدائمة ) بل بإمكانه حتى تعطيل الحركة القضائية برمتها كما حدث هذه السنة في سابقة لم يعرفها القضاء في تاريخه ، كل ذلك في غياب أية سلطة علي أعماله وتصرفاته من أية جهة كانت وهو أمر ندر وجوده في أي دستور من الدساتير الحديثة ، جعل ذلك البعض يتحدث مع قيس سعيد عن ولاية الفقيه أو المرشد الأعلى شبه المعصوم في الفكر الشيعي.
وإذا تركنا مسالة الرقابة التي لا يجريها البرلمان بغرفتيه على عمل رئيس الجمهورية واقتصرنا على الحكومة التي لا يمنحها البرلمان الثقة لا كاملة ولا لأي من وزرائها غير أنه بإمكانه أن يسحب منها الثقة . في هذه الحالة يتعذر على مجلس النواب وحده هنا أيضا أن يضطلع بهذه الصلاحية و لهذا التعذّر سببان :
أوّلهما: عدم إرساء الغرفة الثانية للبرلمان.
ثانيهما : أن وجود الغرفة الثانية هي نفسها أمر غير كاف لممارسة البرلمان لدوره الرقابي لأنّ ممارسة هذه الصلاحية متوقفة على إجراء جوهري وهو إعلام رئيس الجمهورية للبرلمان بالسياسة العامة للدولة التي يضبطه الرئيس و يحدد اختياراتها وعلى أساسها تقع المراقبة.
فبعد اطلاع أعضاء المجلسين على محتوى تلك السياسة العامة يمكن لهم مراقبة عمل الحكومة في تنفيذها فإذا بدا لهم أن الحكومة تسيء تطبيقها يمكن للمجلسين مجتمعين حسب الفصل 115 أن يعارضاها في مواصلة تحمل مسؤولياتها ويسحبا منها الثقة بواسطة لائحة لوم . ويشترط الفصل أن تكون لائحة اللوم معللة وممضاة من قبل نصف مجلس النواب ونصف مجلس الجهات والاقاليم ولا تقع المصادقة عليها إلا بأغلبية الثلثين لأعضاء المجلسين مجتمعين . وهكذا وقع التشدد في صلاحية سحب الثقة من الحكومة بما يجعلها إجراء شبه مستحيل وبما يجعل الوظيفة الرقابية للبرلمان على الحكومة أشبه بذر الرماد في العيون ، هذا إذا افترضنا طبعا نوعا من استقلالية للبرلمان تسمح له بمعارضة الحكومة وهي حكومة الرئيس ، في حين أن كل الدلائل تشير إلى انه سيكون امتدادا لسلطة رئيس الجمهورية لا أكثر ولا اقل.
جميع هذه المعطيات الدستورية تؤكد أن مجلس النواب لن يمارس وحده صلاحياته كاملة لا التشريعية ولا الرقابية في وقت قريب وقد يستمر رئيس الجمهورية في التحكم في المادة التشريعية بواسطة الاوامر والمراسيم وخاصة في أهم واخطر قانون من قوانين الدولة وهو قانون المالية . فإلى حد اليوم لا أحد يعلم تاريخ أجراء انتخابات مجلس الجهات والأقاليم ولا أجل إرسائه، مع العلم أن المصادقة علي قانون المالية يقع طبق أحكام دستور2022 في اجل أقصاه يوم 10 ديسمبر من كل سنة.
وفي انتظار اكتمال انتخاب البرلمان بغرفتيه سيظل مجلس النواب يظلع ويسير أعرج بقدم واحدة وإرادة منقوصة تزاحمه إرادة الرئيس التي ستظل جاثمة على المشهد التشريعي إذا لم يقع إرساء الغرفة الثانية في أقرب وقت.
هوامش
[1] ينص الفصل 88 من دستور 27 جانفي 2014 على انه « يمكن لأغلبيّة أعضاء مجلس نوّاب الشّعب المبادرة بلائحة معلّلة لإعفاء رئيس الجمهوريّة من أجل الخرق الجسيم للدّستور و يوافق عليها المجلس بأغلبيّة الثّلثين من أعضاءه و في هذه الصّورة تقع الإحالة إلى المحكمة الدّستوريّة للبتّ في ذلك بأغلبيّة الثّلثين من أعضائها. و لا يمكن للمحكمة الدّستوريّة أن تحكم في صورة الإدانة إلاّ بالعزل. و لا يعفي ذلك من التّتبّعات الجزائيّة عند الاقتضاء. و يترتّب على الحكم بالعزل فقدانه لحقّ التّرشّح لأيّ انتخابات أخرى».