دستور 1861 هو أول دستور عربي كرس مجموعة من المبادئ الدستورية و المؤسسات السياسية والإدارية الهامة وقد صدر في عهد محمد الصادق( 1959- 1881 ) و بدأ العمل به في مثل هذا اليوم 26 أفريل من سنة 1861 . ويتضمن هذا الدستور مبادئ هامة مثل الفصل بين السلط الثلاث والحد من سلطة الباي وإقرار مسؤوليته أمام المجلس الأكبر. ومن أهم بنود هذا الدستور :
التزام الباي بمقتضيات عهد الأمان الصادر في 10 سبتمبر سنة 1857.
– الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
– إنشاء المجلس الأكبر المتكون من 60 عضوا معيّنين لمدة 5 سنوات. ومن مشمولاته وضع القوانين وتنقيحها وشرحها وتأويلها والموافقة على الأداءات ومراقبة الوزراء ودرس مشروع الميزانية.
– إنشاء محاكم تباشر القضاء.
وقرر الباي إثر اندلاع ثورة علي بن غذاهم سنة 1864 حل المجلس الأكبر بما يعني إيقاف العمل بدستور 1861.
وسنهتم في هذه الورقة بمبد من أهم المبادئ التي جاءت في هذا الدستور وهي مسؤولية الباي امام المجلس الأكبر أي البرلمان.
1) الحد من سلطة الباي وإقرار مسؤوليته أمام المجلس
تعهد محمد الصادق باي عند مبايعته باحترام عهد الامان الذي اعلنه سلفه محمد (بفتح حرف الميم) باي و تعهّد بإتمام ما كان شرع فيه فاصدر في مثل هذا اليوم 26 أفريل 1861 دستور المملكة و يتميّز هذا الدستور بالتأكيد على مسئولية الملك ان خالف القانون.
فدستور عهد الامان هو القانون الذي يتعين على الملك احترامه ومخالفته موجبة لانحلال بيعته . وهو الميثاق الذي أمّن الرعية و سكان الإيالة في ابدانهم و اموالهم و اعراضهم و سوّى بينهم امام القانون ونص على إحداث محاكم للنظر في الجرائم و للنظر في النزاعات التجارية و هو ايضا الدستور الذي سعى محرّروه الى تحديث الدولة التونسية من خلال مؤسسات تشارك الباي في بعض سلطاته و في اتخاذ القرارات مثل تخصيص المحاكم بالنظر في النزاعات و البت فيها وتخويل المتقاضين حق الطعن في الاحكام الصادرة عنها بعد ان كان الباي يجلس للقضاء بين المتخاصمين.
و من مظاهر تحديث الدولة ومشاركة الباي في سلطاته احداث المجلس الاكبر الذي جعل لحماية حقوق الملك و لكن ايضا لحماية « حقوق السكان و المملكة « حسب صريح الفصل الثالث من الباب الثالث المتعلق « بترتيب الوزارات و المجلس الاكبر ومجالس الحكم » و المقصود بهذه الاخيرة المحاكم على اختلاف انواعها.
و اسند هذا الدستور في الباب السابع للمجلس الاكبر صلاحيات عديدة منها التشريع و النظر تعقيبيا في الطعون ضد احكام مجالس التحقيق وهي بمثابة محاكم استئناف و مراقبة حسابات الدولة و منها عملا بأحكام الفصل من هذا الباب صلاحية رقابة دستورية القوانين و هو يعرّف المجلس الاكبر بأنّه« المحافظ على العهود و القوانين و الحامي لحقوق جميع السكان و المانع من وقوع ما يخالف اصول القوانين وكل ما يقتضي عدم مساواة الناس امام المحاكم».
يمثّل عهد الأمان والدستور المنبثق عنه نقلة نوعية في مفهوم السلطة في الإيالة التونسية اذ مثل انتقالا من الحكم المطلق الى الحكم المقيّد بقانون اذ جعل ضوابط متّفقا عليها مسبقا يسيّر الملك في اطارها شؤون الدولة فإذا خرج عنها او خالفها تترّتب عنك ذلك مسئوليته فتنحلّ بيعته.
تتضح مسئولية الملك في نص اليمين الذي يؤدّيه عند بدء ولايته فهذه اليمين هي شرط صحّة اساسي أوّلا لجلوس الباي بصفته ملكا على عرش المملكة التونسية و ثانيا لبقائه ملكا إلى حين وفاته لأنه مهدّد بانحلال البيعة اذا عمد الى مخالفة قانون البلاد.
هذه اليمين هي موضوع الفصل الأوّل من الباب الثاني المتعلق بما للملك من الحقوق و بما عليه فالملك مطالب بحضور اهل الحل و العقد وهم اهل المجلس الشرعي و اهل المجلس الاكبر بان « يحلف بالله وعهده و ميثاقه ان لا يخالف شيئا من قواعد عهد الامان و لا شيئا من القوانين الناشئة منه (من بينها دستور 1861) و ان يحفظ حدود المملكة » و ينص هذا الفصل على انه لا يتمّ امر للملك دون هذه اليمين وعلى ان عقدة بيعته تنحلّ اذا خالف عمدا القانون.
و تتضح هذه المسئولية في الفصل الثالث من نفس الباب الذي ينص على ان «الملك مسئول في تصرفاته للمجلس الأكبر ان خالف القانون » وعملا بأحكام الفصل السابع من الباب السابع ينظر هذا المجلس في دعاوى مخالفة القانون سواء صدرت المخالفة من الملك او من غيره و ما يلفت النظر هو ان هذا الفصل لم يحصر حق رفع الدعوى في اشخاص معينين او جهة معينة بل جعل الحق مطلقا متاحا ل « كل من يدعي مخالفة وقعت في القانون ».
و يظهر في هذا الدستور بلا شك أثر فكر المصلحين التونسيين مثل الوزير خير الدين التونسي صاحب كتاب «أقوم المسالك في معرفة احوال الممالك » و مثل الوزير المؤرخ احمد ابن ابي الضياف صاحب « اتحاف اهل الزمان بأخبار ملوك تونس و عهد الامان » الذي يقسّم الحكم الى ثلاثة اصناف هي الملك المطلق و الملك الجمهوري و الملك المقيّد بقانون شرعي او عقلي سياسي و هو يفضل الصنف الثالث لأنّ « صاحبه يتصرف بقانون معلوم معقول في سائر اموره لا يتجاوزه و يلتزم العمل به عند البيعة » و يتأكّد الالتزام في اليمين الذي يجب عليه اداؤه عند انتصابه للحكم فإذا خالف عمدا ما التزم به تنحلّ بيعته وهو ما يعني ان مساءلة رئيس الدولة مبدأ أصيل من مبادئ فكرنا الدستوري.
أخيرا هل يكون دستور عهد الأمان اكثر ديمقراطية من دستور 2022 الذي غابت فيه اية مسؤولية للرئيس امام أي مجلس او هيئة دستورية . فهو مطلق النفود بلا حسيب ولا رقيب.
2) هل يكون دستور 1861 اكثر ديمقراطية من دستور 2022
ما الذي بقى في دستور 2022 من هذا التراث الدستوري الذي ركز مفهوم مسؤولية الباي امام المجلس النيابي؟
لا شيء تقريبا فدستور2022 عاد بنا الى دستور 1959.
اذ لم يقرّ دستور 1جوان 1959 في نسخته الرسمية مسؤولية رئيس الدولة التونسية عما يرتكب من اعمال تضرّ بمصلحتها . كان مبدأ المسئولية غائبا رغم وجوده في الاعمال التحضيرية و نذكر منها:
– مسودّة 9 جانفي 1957 قبل اعلان الجمهورية التي نصت في الفصل 79 على تمتّع الملك بالحصانة لكنها أجازت محاسبته في حال ارتكابه الخيانة العظمى من طرف ثلثي اعضاء مجلس الأمة الذي يتكون من غرفتين هما المجلس الوطني و مجلس الشورى و يحيل القضية على المحكمة العليا المتكونة من 15 عضوا ينتخب ثلثيهم المجلس الوطني و ينتخب الثلث الباقي مجلس الشورى.
* – المشروع المؤرخ في 30 جانفي 1958 بعد خلع محمد الأمين باي وإعلان الجمهورية و الذ ي يقرّ في الفصل 90 مسئولية رئيس الجمهورية و مسئولية اعضاء الحكومة « عمّا يرتكبونه من الخيانة العظمى » و تجتمع للغرض المحكمة العليا. لكن دستور جوان 1959 في نسخته المعتمدة رسميا جعل المحكمة العليا لا تنظر إلاّ في الخيانة العظمى التي يرتكبها الوزراء معتبرا رئيس الدولة معصوما لا.
هكذا يجعل دستور2022 رئيس الدولة فوق المجالس النيابية والهيئات الدستورية والأحزاب.. لا يلام ولا يحاسب ولا يعزل لكأنه أصبح بذات وصفات الاهية .فهل كان محمد الصادق باي اكثر ديمقراطية من قيس سعيد عندما ختم دستور 1861 و أمضاه و التزم به رغم انّه ينص على انحلال بيعته اذا خالفه عمدا ؟
قد يبدو السؤال غربيا ولكن هذا السؤال رغم غرابته مشروع بالنظر الى كل المعطيات سالفة الذكر . أخيرا فلنتذكر دائما ان غياب المساءلة تربة خصبة للاستبداد.