ربما يكون أغرب ما تعيشه البلاد في هذه الأيام الغريبة في كل تفاصيلها وجزئياتها أن كل القوانين صارت ملكا لصاحب الأمر والنهي فهو يغير ما يشاء كيف ما يشاء. استولت سياسة المراسيم على كامل الجهاز التشريعي فهشمت كل الهرمية القانونية وصارت المراسيم تمس جملة قوانين الدولة وبأشكال هي أغرب من الغريب . فما معنى تعديل القانون عدد 12 لسنة 1985 المؤرخ في 5 مارس 1985 المتعلق بنظام الجرايات المدنية والعسكرية للتقاعد وللباقين على قيد الحياة في القطاع العمومي بمناسبة قانون المالية . ما هي الحكمة من ذلك ؟
لتوضيح الأمر يجب ان نستحضر بعض التفاصيل
لقد كان سن التقاعد المرجعي لأعوان وموظفي الدولة ستين سنة واعوان الدولة هم الذين تشغلهم الدولة و الجماعات العمومية والمحلية والمؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية. و المؤسسات العمومية ذات الصبغة الصناعية والتجارية والشركات القومية التي تضبط قائمتها بأمر و الهيئات الدستورية المستقلة والهيئات العمومية التي تضبط قائمتها بأمر حكومي.
غير ان الإدارة كانت تسمح لبعض موظفيها السامين وأساتذة الجامعة بالبقاء في الخدمة الى حدود 65 سنة . كان هذا التمديد يمنح على الهوية وبناء على الولاء للسلطة . وقد كنا في مقالات كثيرة كتبناها قبل الثورة وحتى بعدها تحدثنا عن مسالة التمديد في الخدمة للجامعيين من خلال شراء الضمائر وإفساد الذمم وفرض بطاقات الانخراط في التجمع الدستوري الديمقراطي على الجامعي . كان بعض الجامعيين الطامعين في البقاء في الخدمة بعد الستين يتكفلون بمحاربة العمل النقابي وتقديم تقارير الاسترشاد ضد هذا او ذلك من مناضلي الجامعة . كانت وزارة التعليم العالي لا تسمح بالبقاء في الجامعة بعد الستين إلا لأعوانها وزبانيتها ومخبريها . وكانت تستبعد كل جامعي مستقل أو معارض بأي شكل من الأشكال . وهكذا استبعد هشام جعيط وعبد المجيد والشرقي وأحمد ابراهيم وغيرهم رغم قيمتهم العلمية وحاجة الجامعة إليهم في ذلك الوقت سواء على مستوى التدريس او التأطير.
في سنة 2009 وقع تعديل على قانون التقاعد فحددت سن الإحالة على التقاعد بخمس وستين (65) سنة بالنسبة إلى أساتذة التعليم العالي والأساتذة المحاضرين للتعليم العالي بالمؤسسات الجامعية ومؤسسات البحث العلمي المدنية والعسكرية والأساتذة الإستشفائيين الجامعيين والأساتذة المحاضرين المبرزين الإستشفائيين الجامعيين .غير أنه يمكن إبقاؤهم بحالة مباشرة بمقتضى أمر إلى أن يبلغوا سنا أقصاها سبعون (70) سنة. ويتخذ الأمر المشار اليه بناء على تقرير معلل من الوزير المعني بالأمر. وبهذه الصيغة ظلت الإدارة تتحكم مرة أخرى في البقاء في الخدمة للجامعين من صنف أ أي الاساتذة المحاضرين والاساتذة اذ أن بقاءهم بين 65 و70 سنة كان يخضع لموافقة الإدارة كما تتحكم في البقاء في الخدمة للأساتذة الجامعيين من صنف ب اي المساعدين والأساتذة المساعدين الذين ظلوا يتقاعدون في سن الستين مع امكانية التمديم لهم الى سن 65.
تعديل سنة 2019
في سنة 2019 وبعد جدل كبير عرفه مجلس نواب الشعب وبعد إخفاقه في مرة أولى في المصادقة على تعديل القانون عدد 12 لسنة 1985 نجح المجلس في المصادقة على التعديل الذي اقترحته الحكومة ودون الدخول في تفاصيل وأسباب عرض مشروع التنقيح وصلته بالصناديق الاجتماعية في ذلك الوقت ، فقد حدد الفصل 24 جديد من القانون المذكور سن الإحالة على التقاعد باثنين وستين (62 ) سنة وبذلك أضاف سنتين على السن القديمة المرجعية لاعوان الدولة التي كانت ستين سنة.
و بمقتضى التعديل الذي صادق عليه البرلمان على قانون 1985 صار ممكنا للأعوان العموميين باستثناء بعض الاصناف ( الاعمال الشاقة ، الجيش، الشرطة، ) اختيار الترفيع في سن إحالتهم على التقاعد وهي 62 سنة بسنة أو بسنتين أو بثلاث سنوات.الى حدود 65 سنة.
كما يمكن لأساتذة التعليم العالي والأساتذة المحاضرين للتعليم العالي بالمؤسسات الجامعية ومؤسسات البحث العلمي المدنية والعسكرية والأساتذة الاستشفائيين الجامعيين والأساتذة المحاضرين المبرزين الاستشفائيين الجامعيين. الترفيع في سن إحالتهم على التقاعد بسنة، أو بسنتين، أو بثلاث سنوات أو بأربع سنوات أو بخمس سنوات وإلى حدود 70 سنة.
وفي صورة اختيار الترفيع في سن الإحالة على التقاعد يجب على الأعوان المعنيين تقديم مطلب كتابي إلى المشغل وذلك ستة (6) أشهر قبل تاريخ بلوغ سن الإحالة على التقاعد و يتولى المشغل إحالة مطالب اختيار الترفيع في سن الإحالة على التقاعد إلى الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية حال توصله بها.
ويعتبر الاختيار الذي تم اعتماده من قبل العون المعني نهائيا وغير قابل للرجوع فيه.
كان أمر التمديد إذن اختيارا من الموظف العمومي وكان لا يخضع بأية صيغة من الصيغ إلى موافقة المشغل الذي يقتصر دوره على إعلام الصندوق الوطني للتقاعد بالمطلب حتى لا يتكفل الصندوق بجراية الموظف اذا وصل الى السن المرجعية للتقاعد وهي 62 سنة.
ما الذي تغير بواسطة الفصل2 1 من قانون المالية ؟
جاء في الفصل 12 من قانون المالية وتحت عنوان « ترشيد التمديد في سن التقاعد » وبصيغة توحي بان هذا التمديد الذي حصل سنة 2019 كان غير مرشد وفوضوي، بل لعله كان خطا ارتكبه المجلس بالمصادقة عليه بتلك الصيغة.
» انه يمكن للعون العمومي اختيار الترفيع في سن إحالتهم على التقاعد بسنة أو بسنتين أو بثلاث سنوات بنفس الصيغة القديمة لكن في صورة اختيار الترفيع في سن الإحالة على التقاعد يجب على الأعوان المعنيين تقديم مطلب كتابي إلى المشغل للبتّ فيه بالموافقة أو الرفض ( وهنا الغرض الأساسي من التعديل ) وذلك ستة (6)أشهر على الأقل قبل تاريخ بلوغ سن الإحالة على التقاعد المضبوطة و. تتم إحالة المطالب التي حظيت بالموافقة إلى الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية.
كما يمكن للأعوان الذين تمت الموافقة على الترفيع الاختياري في سن تقاعدهم تقديم مطالب تراجع في الغرض.
و يمكن للأشخاص المنصوص عليهم بالفصل 29 مكرر من قانون 1985( الاساتذة الجامعيون من صنف أ ) اختيار الترفيع في سن إحالتهم على التقاعد بسنة، أو بسنتين، أو بثلاث سنوات ،أو بأربع سنوات أو بخمس سنوات وإلى حدود 70 سنة وفقا للإجراءات المنصوص عليها بالفقرتين الثانية والثالثة من هذا الفصل باستثناء شرط موافقة المشغل. »
لماذا هذا التعديل ؟
من الواضح أننا مقبلون على العودة الى زمن بورقيبة و بن علي . زمن التمديد في سن التقاعد على الهوية فلم يعد طلب التمديد يوافق عليه آليا بمجرد تقديمه من الموظف، بل صار يخضع إلى تقدير الإدارة أي المشغل وهي الدولة .
من المعروف أن من يطلبون التمديد في سن التقاعد هم عادة الموظفون السامون والقضاة أي أولئك الذين يتمتعون بالإضافة إلى أجورهم المرتفعة بامتيازات عينية ( سيارات وظيفية وصولات بنزين منح خاصة) عدا النفوذ الذي يمكنهم منه بقاؤهم في مواقع القرار . هؤلاء هم الذين يستهدفهم التغيير . هؤلاء لن يبقوا في الخدمة الى 65 سنة إلا بموافقة المشغل وهي الدولة . والدولة اليوم مقبلة على استبقاء أو استبعاد الموظف من الإدارة بين 62 و65 سنة بحسب الملف وبحسب حسن السيرة والولاء للحاكم .
سنعود الى التمديد في سن الاحالة على التقاعد على الهوية . ومن شبه الأكيد أن القضاة سيكنون أول المستهدفين من هذا التغيير. فلنتذكر ان دستور 2022 يجعل من القضاة العدليين والإداريين والماليين هم فقط أعضاء بالمحكمة الدستورية فبموجب الفصل 125 من دستور 2022– تتركب المحكمة من تسعة أعضاء، ثلثهم الأوّل من أقدم رؤساء الدّوائر بمحكمة التعقيب، والثلث الثاني من أقدم رؤساء الدوائر التّعقيبية بالمحكـمة الإدارية، والثلث الثالث والأخير من أقدم أعضاء محكمة المحاسبات.ينتخب أعضاء المحكمة الدستورية من بينهم رئيسا لها طبقا لما يضبطه القانون. إذا بلغ أحد الأعضاء سنّ الإحالة على التقاعد، يتم تعويضه آليا بمن يليه في الأقدمية، على ألاّ تقل مدّة العضوية في كل الحالات عن سنة واحدة.
وهكذا يشترط القانون ان يكون قضاة المحكمة الدستورية هم الاقدم من رؤساء الدوائر اي بلا شك الأكبر سنا أي بالضبط أولئك الذين سوف تمكنهم الدولة من البقاء في القضاء بعد سن 62 .هؤلاء هم الذين سيكونون الاقدم .هؤلاء هم الذين سيكونون الأكثر طاعة . كما ستتغير الخارطة القضائية برمتها وخاصة على مستوى المسؤوليات والوظائف العليا التي ستسند لمن سيمدد لهم في الخدمة على الهوية . نحن نفهم الآن الحكمة من هذا التعديل.
لم يترك قيس سعيد امر تعديل قانون 1985 للمجلس القادم ( ولا نعتقد ان المجلس إذا راجع كل المراسيم الصادرة بعد 25 جويلية 2021 وفق ما يقتضيه الدستور في فصله 73 سيكون ضد رغبة الرئيس ) فالرجل لا ثقة له في أحد هذا من ناحية ، وهو من ناحية أخرى يريد وعلى جناح السرعة ان ينشر منذ الآن بين الموظفين المقبلين على التقاعد عقلية الاستكانة والخنوع والخضوع . فالدولة اليوم تميز بين موظفيها ومواطنيها فهم وطنيون مخلصون نظيفو الأيدي او لا وطنيون وخونة وسراق . وهي في نطاق تخليص الإدارة من الصنف الثاني أدرجت هذا التعديل على وجه السرعة في مرسوم لا ندري صلته الوثيقة بالميزانية رغم ما يقال عن الرغبة في التحكم في كتلة الأجور ( تلك مجرد ذريعة لا تبرر إخضاع التمديد لتقدير الإدارة في تمييز بين موظفيها ) الذي سيدخل حيز النفاذ بداية من 1 جانفي 2023.
وهكذا ستمأسس الدولة في المستقبل وهي تدعي الإصلاح الفساد في صفوف الموظفين . فلن يبقى في إدارتنا في الأيام والسنوات القادمة اذا قيض لهذا النظام ان يستمر في السلطة من الموظفين السامين والقضاة والذين سنهم بين 62 و65 سنة غير الراكضين وراء كسب أو ربح شخصي أو من أجل تحقيق هيبة أو مكانة اجتماعية أو منفعة للنفس والأبناء والأهل والعشيرة و ستكون الضريبة التي سيدفعونها هو الاستعداد التام لارتكاب كل أنواع خرق القانون ومعايير السلوك الأخلاقي ، وبذلك تنشر الدولة بالضبط مثل ما كانت تفعل في الماضي زمن بورقيبة وبن علي عقلية انتهاك الواجب العام. ولا شك لدينا أن الموظفين السامين او القضاة الذين سوف تستبقيهم الدولة في الخدمة سيكونون أعوانها الطيعين سواء في الأقضية الثلاثة العدلي والاداري والمالي والذين ستسند إليهم بلا شك الوظائف القضائية السامية او في القضاء الدستوري . سيكون لدينا في المستقبل موظفون كبار في السن في خدمة السلطة المستبدة لا في خدمة الدولة والشعب .