في تزامن مع إضراب القضاة وظهورهم المكثف في الإعلام منذ يوم الاثنين لشرح مطالبهم المتعلقة بالوضع الصحي في المحاكم ووضعيتهم المادية عموما بعد قرار الإضراب بخمسة أيام انتشرت وثائق منسوبة إلى وكيل الجمهورية بمحكمة تونس 1 السابق البشير العكرمي تتمثل في تقرير أرسله إلى المجلس الأعلى للقضاء يتصل بشبهات فساد مالي متعلقة بالرئيس الأول لمحكمة التعقيب وهي الوثائق التي كانت النائب سامية عبو أشارت إليها في مداخلة لها في مجلس النواب. فقد اتهمت النائبة في مداخلة لها يوم الخميس 12 نوفمبر 2020 بمجلس نواب الشعب الرئيس الأول لمحكمة التعقيب بالفساد وشككت في ذمته المالية.
وقالت عبو في هذا السياق إن وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية تونس أحال في شأنه طلبا إلى المجلس الأعلى للقضاء من أجل رفع الحصانة عنه إلا أن هذا الملف ظل جامدا ولم يحرك ساكنا مضيفة بأنها تحرت في شأنه واكتشفت حقائق صادمة حسب رأيها من ذلك أن اثنين من القضاة على علاقة بالقضية متسائلة كيف لقاض من الرتبة الثالثة أن يقتني عقارات قيمتها بملايين الدينارات.
ومن المرجح أن تسريب الوثيقة المنسوبة إلى وكيل الجمهورية السابق بشير العكرمي في وسائل التواصل الاجتماعي منذ يوم اول أمس الثلاثاء جاء أيضا للتدليل على أن القضاة الذين لا ينفكون عن المطالبة بتحسين ظروفهم المادية كثيرا ما يكونون أصحاب أملاك طائلة وهم كثيرا ما يسكتون عن قضايا الفساد التي تنخر قطاعهم في ضرب من التواطؤ مع من تحوم حولهم شبهات فساد من القضاة أنفسهم.
لا مناص من الاعتراف أن النقابات والجمعيات المهنية مهددة على الدوام بغلبة المنطق المهني والفئوي على منطق المصلحة العامة غير أن للقضاء منزلة خاصة إذ لا مجال فيه لقبول أي انحراف نظرا لما له من دور مصيري في بناء دولة الحق والقانون كشرط أساسي لبناء الدولة الديمقراطية العادلة التي نطمح اليها ولذلك فنحن لا نفهم سكوت جمعية القضاة و نقابة القضاة عن الاتهامات الخطيرة الموجهة إلى الرئيس الأول لمحكمة التعقيب منذ مداخلة سامية عبو وهو رأس السلطة القضائية كما لا نتفهم تلكؤ المجلس الأعلى للقضاء في رفع الحصانة عن هذا القاضي.
انه من الغريب جدا أن يكون قاضيا في قمة الهرم القضائي محل شبهة فكيف يستمر في المسؤولية متحكما في سلطاته الفعلية والرمزية الواسعة رغم ما صرحت به النائبة سامية عبو وما انتشر منذ ايام بشكل واسع من وثائق تثير البلبلة والشكوك؟
طبعا لكل مواطن حق الانتفاع بقرينة البراءة طالما لم تقع إدانته في محاكمة عادلة ونحن لا ندين أحدا ولكن التحقيق في مثل هذه الشبهات هو أمر ضروري حماية للسلطة الفضائية ذاتها وصيانة للثقة العامة في القضاء.
ان سكوت الهياكل المهنية عن هذا الملف وخاصة جمعية القضاة التي كثيرا ما ترفع لواء الإصلاح ومحاربة الفساد يدمر صورتها لدى الرأي العام ويقلل من مدى تعاطف التونسيين مع مطالب القضاة جميعا وبقطع النظر عن الهيكل الذي يمثلهم إذ كثيرا ما يظهرون كلهم بمظهر القطاع الأناني الذي لا يعنيه غير منافعه بعيدا عن رؤيا وطنية تكرس القضاء كسلطة حامية لحقوق التونسيين وحرياتهم وواحدة من الأدوات الأساسية لمحاربة الفساد.
من المؤسف انه لا شيء يدل على وجود إرادة حقيقية من القضاة أنفسهم لمجابهة مشكلة الفساد داخل السلطة القضائية ذاتها ثمّ إن ما يزيد الأمر تعقيدا هو صمت هياكل الدولة وعلى رأسها الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد نفسها عن كثير من شبهات الفساد التي تثار سواء في مجلس النواب او في شبكات التواصل الاجتماعي ومنها هذا الملف رغم ما يشاع من أن الرئيس الأول لمحكمة التعقيب لم يصرح لدى الهيئة بكل الأملاك المنسوبة إليه في تقرير وكيل الجمهورية السابق.
بل ان ما يعقد المسالة ويثير الشكوك حول الإرادة في مكافحة الفساد سواء من هياكل المهنة أو الهيئات المستقلة الوطنية هو أن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد هي نفسها تثار حولها كثير من الشبهات فقد وصف محمد عمار النائب عن التيار الديمقراطي الرئيس السابق للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد شوقي الطبيب بـ”الفاسد” و انه يمتلك شبكة كبيرة من العلاقات مع السياسيين والإعلاميين الذين يعملون على دعمه اذ قال الأربعاء 26 أوت في تصريح إعلامي إن الدفاع المستميت من قبل الإعلام على شوقي الطبيب بعد إقالته يثبت فساده داعيا إياه إلى الانسحاب بعد أن تعلقت به شبهات تضارب مصالح بدل الدخول في معركة لي ذراع يستعين خلالها بمسانديه من السياسيين والإعلاميين وفق تعبيره وأضاف محمد عمار “شوقي الطبيب فاسد ويستحق الإقالة شأنه في ذلك شأن إلياس الفخفاخ شوقي الطبيب موش على راسو ريشة وإن تعلقت به ملفات فساد فعليه أن يحاسب مثل غيره”.
وهكذا تضيع المحاربة الجدية للفساد في خضم صمت القضاة من جهة وقصور الهياكل الوطنية المختصة أو تواطئها وحروب السياسيين في ما بينهم واتهامهم بعضهم لبعض بالفساد فإذا صدقنا الرئيس السابق لهيئة مكافحة الفساد فان تونس مرت في ظل الفوضى التي عرفتها البلاد يعد الثورة من فساد الدولة إلى دولة الفساد …