«شدّد رئيس الجمهورية قيس سعيّد، خلال ترؤسه أمس الثلاثاء بقصر قرطاج، اجتماعا لمجلس الأمن القومي، على ضرورة اتخاذ اجراءات عاجلة لوضع حد وبسرعة لظاهرة توافد أعداد كبيرة من المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء على تونس ولاحظ رئيس الدولة، أن هذا الوضع « غير طبيعي »، خاصة وأن جحافل المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء مازالت مستمرة، مع ما تؤدي إليه من عنف وجرائم وممارسات « غير مقبولة »، فضلا عن أنها مجرّمة قانونا، وفق بلاغ أصدرته رئاسة الجمهورية ».
(« رئيس الجمهورية يشدد على ضرورة الاسراع بوضع حد لظاهرة توافد مهاجرين غير نظامين قادمين من إفريقيا جنوب الصحراء على تونس » وات 21 فيفري2023 ).
هذا مقتطف من كلام الرئيس قيس سعيد في اجتماع مجلس الأمن القومي الثلاثاء 21 فيفري الجاري ..ويحتوي هذا المقتطف على معجم متداول في أي خطاب عنصري مناهض للأجانب المهاجرين سواء لدينا او لدى غيرنا : وضع غير طبيعي ، جحافل ( وتستعمل الكلمة للجيش في حالة الحرب كما تستعمل للحيوان فجحافل الخيل افواهها ) ، عنف ، جرائم ممارسات غير مقبولة -( لفظ عام لا يحدد أي سلوك بعينه ) ، مجرمة قانونا ..
كيف يمكن أن تجتمع في سطر واحد كل هذه الأوصاف والصفات التي لا تعني رجلا بعينه او امراة بعينها، ولكنها تعني جحافل جاءت من جنوب الصحراء الى تونس ؟
أن المشكلة الأخطر في خطاب قيس سعيد هو انه يقدّم رؤية معينة للإفريقي المهاجر حيث تختلط الهجرة غير النظامية بالجريمة والعنف وكما هو الحال دائما في الرؤية التي يرسمها الخطاب الشعبوي والعنصري فهو يؤثر في عامة الناس مع الأسف أكثر مما تؤثر التحاليل العلمية لظاهرة الهجرة غير النظامية سواء كانت تعنينا أو تعني غيرنا ..ويكون ذلك بالعرض المشوه لصورة الأخر الخطير لمجرد لون بشرته مما يلهب الخيال ويؤجّج الأحقاد ويشجع الخلط في بيئة عنصرية في كثير من الأحيان مستعدّة بفعل عوامل معقدة للوقوع في فخّ الإيحاءات المغرضة.
كيف نستغرب بعد هذا أن يتحول كل إفريقي إلى رجل خطير يهدد تونس بل يهدد هويتنا العربية الإسلامية في تحريك لكل النعرات القومية مثلما تفعل ذلك كل الحركات العنصرية حين تزرع فوبيا الأجنبي وتعزف على وتر القومية والاصالة والتميز؟ .هل أصبحنا اكثر عنصرية من الغرب العنصري ممثلا في الاحزاب اليمنية المتطرفة التي تغزو العالم الحر وتهدد كل قيم الديمقراطية و الإنسانية والتسامح ؟
فرانز فانون (1) والنظرة العمياء
اذكر أني سافرت سنة 2006 وفي خضم حوادث الكاريكاتور الدنماركي حول الرسول مع صديق لي صحبة عدد من الطلبة العرب الى منطقة النورماندي في شمال فرنسا في إطار عمل علمي، وكنا على عادتنا ونحن نسير جنبا إلى جنب في كثير من الحميمية التي لا تزال تميز شعوبنا سبعة رجال بلا امرأة ، فمرّت بنا سيدتان فرنسيتان استمعنا جيّدا إلى أحداهما تقول للأخرى: »يا إلاهي! كم يشبه هؤلاء الفتية بعضهم بعضا ! » .كانت المرأة بطبيعة الحال تشير إلى الوجوه السمراء التي لفحتها، جيلا بعد جيل، شمس شمال إفريقيا .قال لي صديقي من الجامعيين معلقا على قول المرأة »هل قرأت «فرانز فانون Frantz Fanon ؟ » قلت له: »نعم درّست بعض نصوصه في الجامعة » فأجابني « هل تذكر تلك النظرة التي يسميها «فانون» بالعمياء Le regard aveugle، ؟ » إنها أصل البلاء ومستودع كل المصائب العنصرية ولذلك فنحن على اختلاف ظاهر بيننا، نشبه بعضنا بعضا في عيني هذه السيدة الفرنسية ».
وهكذا فان النظرة العمياء تسوي بيننا هناك نحن العرب كما يمكن أن تسوي نفس النظرة بين الأفارقة عندنا هنا في تونس .إنهم يشبهون بعضهم بعضا ولا مجال لتمييز الواحد منهم عن الأخر في نظر تلك العين التي لا ترى غير اللون وتنكر القسمات والفوارق ولهذا فكل إفريقي مستارب وهو يمثل تهديدا محتملا . انه مجرم بالقوة وان لم يكن بالفعل ( هل هي دعوة الى الفتك بهم ؟)
هذه النظرة العمياء ينضاف إليها إحساس بالاشمئزاز والتطير من اللون الأسود. أذكر في ما أذكر أيضا أن صديقا لي من الأساتذة أيضا كرى منزلا له في جهة لعوينة ( يوجد كثير من الأفارقة في هذه الضاحية ) إلى رجل إفريقي كان يشتغل موظفا ساميا في البنك الإفريقي للتنمية حين غادر هذا البنك أبيدجان أثناء الحرب الأهلية في الكوت دي فوار واستقر مدة في تونس . لقد اشتكى الرجل في المرات التي زار فيها منزله لتسلم معين كرائه من أن المنزل به رائحة كريهة لم يتبين مصدرها . مع العلم أن وجود رائحة كريهة لدى السود فكرة استمعت إليها عند كثير من التونسيين ويرجعها البعض إلى كثرة التعرق لديهم وهي في الواقع لا تختلف عن النظرة العمياء التي يتحدث عنها فانون فهي ناتجة عن هلوسة شمية تسوي بين الروائح وتختلط فيها رؤية العين بحاسة الشم .
في مخاطر الخطاب العنصري
إن الخطاب العنصري يخفي شرا مستطيرا، تختفي معها الفروق والمعالم وتبهت الألوان والقسمات ويستقرّ في الذهن وفي العين غير القادرة على التمييز تشابه مهدّد، مع التأكيد أخيرا على ان خطاب قيس سعيد ليكون أكثر إثارة لا يخلط بين الوجوه فقط، بل بين الأزمان والحقب فإذا هي مؤامرة تحاك منذ بداية القرن ( ما هي هذه المؤامرة ؟ ) وهكذا يسوّي قيس سعيد ما بين 2011 زمن الثورة وما قبلها فإذا الزمنان كليهما قائمان على الخيانة وهو ما يستدعي حرب «تحرير وطني » وهو التعبير الأثيل لديه دأب على استعماله في ما يشبه الوعد بثورة « تحرير جديدة » من أعداء الوطن القديمين والمحدثين : من أعداء تونس وعملاء الخارج ..
نعم كل شيء مباح في هذه الحرب التي يشنها سعيد ضد معارضيه وضد الثورة . كل الأسلحة متاحة ومباحة : تحريك النعرات الجهوية ، اللعب على الحقد الطبقي الأعمى لدى المفقرين ، فوبيا الإسلاميين، النعرات القومية ، الدعوات العنصرية . فوجود الافارقة في تونس تهديد لهويتنا العربية الإسلامية كما جاء في كلام قيس سعيد موضوع تحليلنا
لسنا هنا فقط أمام نظرة عمياء عنصرية على حد قول فانون، بل نحن في نفق مظلم قد لا نرى قريبا في آخره النور المرتقب.
الهوامش
)-1 فرانز عمر فانون (بالفرنسية: Frantz Fanon) (20 جويلية 1925 – 6 ديسمبر 1961) ويُعرف باسم إبراهيم عمر فانون، هو طبيب نفسانيّ وفيلسوف اجتماعي من مواليد فور دو فرانس – جزر المارتنيك، عرف بنضاله من أجل الحرية وضد التمييز والعنصرية.