يذكرك المحامون في جلساتهم ويتمنون لو كنت بينهم ليصدح صوتك بالدفاع عن استقلالية المحاماة ولتمتلئ القاعة الفسيحة بحماسك المعهود وأنت تستعيد نضالات القطاع الذي كنت واحدا من ألمع ممثليه على مدى عشرين سنة . يذكرك القضاة أيضا في كثير من جلساتهم الخاصة ويتمنون هم أيضا لو كنت في هذه الأوقات الصعبة بينهم لتكون كما عهدوك جسر محبة وإخاء وتضامن بين جناحي العدالة . وكيف لا يذكرونك وقد كنت خيرا نصير للقضاة في محنتهم أيام الانقلاب على جمعية القضاة حين عز العون وانعدم النصير إلا من المحامين الأشاوس الذين كنت واحدا من أكثرهم تشبثا بالحق والعدل ؟ لله درك يا فوزي فقد تقاسمك المحامون والقضاة بالعدل أيضا كما يقتسم التراث الرمزي الجليل الحي الذي لا يموت جيلا بعد جيل.
مضت عشر سنوات إذن وأنت هناك وأنا هنا . أي حلم كنا نحمله معا ونكتب عنه بيدين وقلم واحد في مكتبك حين يغادره آخر حريف من حرفائك ليتغير شكل المكان ووظيفته ؟ بل نتخاصم من أجله أحيانا خصاما يسكت معه هاتفك وهاتفي إلى أن يحين وقت كتابة نص آخر فاستحضر خبرتك القانونية لأستعين بها على كتابتي في اختصاصك الذي درسته أنت في الجامعة وتدربت عليه أنا بك ومعك أو تدعو أستاذك ليكون لك عونا على اللغة والكلمات حين يستعصي عليك النحو ويرهقك التركيب .
كنا نبحث في هذه الكلمات التي كنا نكتبها معا ، دفاعا عن الحرية المسلوبة في سنوات الجمر والتحدي عن شيء نرسله إلى تونس نيوز أو جريدة الموقف يبعث الحياة شغفا كعشق المريدين الآيبين من نشوة الخلاص والتّجلّي… هناك كان يجتمع في زمن المحنة والجبروت في مكتبك الرفاق والخلان ، خلان المحبة ورفاق سلاح الكلمة . لكنّ وحسرتاه وأنا أراجع بعد عشر سنوات من رحيلك نصوصك ونصوصنا ، يتراءى لي الاسم بلا مسمّى والروح بلا جسد...ما الموت؟ما ذاك « الّذي يعشق فجأة…ولا يحبّ الانتظار »؟...
يا صديقي لا يمكننا وصف ما يسبق الكارثة إلا إذا كنا على معرفة سابقة بحدوثها أو على الأقل نتوقع حدوثها رغم أنني أدركت عشية الندوة الصحفية الشهيرة في 22 فيفري 2013 حين زرتك في مكتبك والتي قلت فيها ما قلت عن اغتيال شكري بلعيد من خلال كآبتك البادية من تحت نظارتيك السميكتين أن شيئا فيك قد انكسر والى الأبد . لم تخرج معافى يومها من محنة ما كنت تريد أن تقول أو لا تقول . انهار السد فيك وجرفك حزنك إلى حيث هو يشاء .لم تكن مشلول الإرادة فحسب، بل محمولا بقوى غامضة تنطلق بك إلى نقطة تنعدم فيها السيطرة على النفس رغم انه كان داخلك ذلك الوهج الرائع الذي تعودت عليه فيك. كأن غطاء داخليا أغلقك دوني وسد أذنيك وقطع كل صلة بين حواسك وبين ما كان يقوله البعض عنك . وقد كانوا بالأمس رفاقا لك وأحبة .
سألتك ماذا تعرف عن مقتل شكري ولم تقله في الندوة ؟ لم تجب على سؤالي وكأنك لم تسمعه . بطبيعة الحال لم أعرف عن الاغتيال شيئا جديدا ذلك المساء، بل ازداد المشهد عندي قتامة وضبابية . أما عنك فقد أحسست إحساسا غامضا انه بقصد منك أو دون قصد تكشف عن شيء جديد في نفسك لم أتعوده فيك وهو أن تجعل من نرجسيتك التي كانت عندي جانبا محببا في شخصيتك والتي كانت تدفعك إلى الإبداع في المرافعة وفي الكتابة جدارا بينك وبين الآخرين. شعرت يومها انك كنت غارقا في وهم، ولكنك كنت متشبثا به إلى حد العناد القاتل ربما كان ذلك سببا كافيا لتوقف دقات قلبك فجأة والى الأبد .
كنت تتحدث بغير توقف ولا نظام عن السلطة وعن القوة الغاشمة عن الموت والخيانة بعد ما تعرضت له في الندوة وتعيد مرة بعد أخرى أنك تملك من الأسرار ما لا يملكه أحد .و لكن بخلاف عادتك شعرت أن مقاومتك لم تكن هي نفسها فبدلا من إن تحدث فيك المحنة إصرارك المعهود على الصمود بفعل التجربة والمعاناة الطويلة والخبرة القانونية حدث شيء آخر غريب ومفاجئ ومحزن لكأنه نوع من الشلل . لم أكن ادري ليلتها أنها يد الموت تتسلل إلى قلبك وان القضاء قد حم والأجل قد انتهى.
تابعت بعد ذلك يوما بعد يوم وعلى مدى شهر ونصف انهيار خط الأمن النسبي داخلك وتحكم القوة الغاشمة فيك وقوامها عسف السلطة وظلم ذوي القربي كما كنت تظن. و كان ظلم ذوي القربى في نفسك الجريحة أشد مرارة عليك. نزل دونك كواجهة بلورية عزلتك عن الدنيا و شغلتك عن الناس إلا أقرب المقربين إليك الذين ظللت تعيد عليهم بعض ما تعرف. ثمة فيهم من كان يصدقك وثمة من كان يفضل الحديث في شأن آخر حتى لا يمضي النصل أعمق في القلب الحساس الذي انتصرت عليه في صراعك المرير معه مرتين وهزمك في الثالثة .
تلك آخر ذكرياتي الحزينة معك ابتدأ بها الفقد لتنطلق الذكرى التي هي بعض من حياتك، ولكن بعض من مأساة هذه البلاد التي فتحت عينيها مع الثورة على الإرهاب والجريمة . لا نزال يا فوزي عشر سنوات بعد موتك نبحث عن قاتل صديقك ورفيق دربك شكري بلعيد و لكن نعدك انه لن يهدأ لنا بال قبل أن نعرف السر الذي ربما يكون قد عجل بموتك . وداعا فوزي مرة عاشرة أيها العزيز الفقيد بيننا الحاضر فينا .