اليوم الأحد 24 ديسمبر 2023
قمت على غير العادة متثاقلا. لم أنم إلا بشكل متقطع. عوت الريح كذئب جائع طوال الليل. أنا رجل متقاعد ولم يعد يعنيني اختلاف الأيام ولا الليالي. كلها تمر على وتيرة واحدة: الوقت بطيء والزمن ممل. عدا شيئا واحد تعودت عليه يوم الأحد منذ كنت أعزب وقبضت أول أجرة بعد أن صرت موظفا صغيرا في إحدى الإدارات وهو أن أقوم ب «قضية «الأسبوع حتى لا احتاج إلى شيء من السوق بقيته. أملأ الثلاجة بما استحقه إلى الأحد القادم وكفى.
تزوجت فأصبحت العادة واجبا. زوجتي موظفة مثلي تشتغل كامل الأسبوع في احدى الشركات الخاصة. تدعو الله كل اليوم أن يخلصها من عبء عمل تكرهه كما تكره كل رؤسائها. تضطر أحيانا إلى إتمام واجباتها المهنية في المنزل إذا كانت إدارتها في حاجة ماسة إليه. تفرض زوجتي على أن احمل لها من السوق كل ما تطلبه وتحتاجه في مطبخها كامل الأسبوع وإذا نسيت شيئا وبختني على إهمالي وضياع عقلي. وهي لا تدخل المطبخ إلا مرة واحدا في اليوم مساء بعد العودة من العمل. أنا لا أجيد الطبخ لأعينها.
أفقت اليوم الأحد وتركت زوجتي نائمة فهي مكدودة ولا تجد وقتا للنوم الطويل إلا يومي السبت والأحد. لي ولدان هاجرا منذ وقت طويل الأول إلى ألمانيا بعد أن تزوج ألمانية عجوزا إثر سنوات من البطالة. والأخر يعيش في فرنسا يقول انه يدرس العلوم السياسية ويعد رسالة حول الانقلابات العسكرية في إفريقيا جنوب الصحراء وهو اختصاص لا أعلم عنه شيئا. أراهما مرة كل سنة أو سنتين ولا اسأل عنهما إلا قليلا.
شربت قهوتي هذا الصباح وحدي في المطبخ. لدينا قاعة للأكل ولكننا لا نستعملها، فزوجتي تركتها للضيوف الذين لا يأتون أبدا.
خرجت إلى سوق الحي وهو عبارة عن شارع طويل يصطف فيه الباعة يعرضون سلعهم بشكل فوضوي أما السوق البلدية الجديدة التي دشنها أخيرا السيد المعتمد مزهوا فلا يقصدها شار واحد حتى اضطر باعتها إلى الإضراب أسبوعا كاملا ولكن لم يلتفت إلى إضرابهم أحد فعادوا إلى العمل مكرهين.
السوق مزدحم جدا هذا اليوم والناس يتحدثون كالعادة عن غلاء الأسعار وفقدان كل شيء تقريبا: الحليب والسكر والقهوة والأرز ويسبون الحاكم جهارا أو يصبون جام غضبهم على السنوات التي يسميها البعض منهم " سوداء. "
أتممت " قضيتي «وعدت من طريق غير الطريق التي سلكتها أولا لأذهب إلى بائع النباتات. كنت انوي شراء ياسمينة لحديقتي الصغيرة. هناك مررت بالمدرسة الابتدائية الوحيدة في حينا.
الساعة تشير إلى العاشرة والنصف صباحا لفت انتباهي بابها الكبير المفتوح ورجل أمن وعسكري يقفان أمام الباب. كان العسكري يحمل سلاحا بين يديه. نظرت إلى ساحة المدرسة فإذا هي فارغة عدا قطا هزيلا لابدا في إحدى الزوايا يموء من شدة الجوع والبرد استغربت المشهد كله: المدرسة المفتوحة يوم الأحد ورجل الأمن والعسكري والقط الوحيد في ساحة المدرسة التي يعوي فيها الريح.
كدت أن أسأل عن سبب كل ذلك ولكني لم أسأل لأني رجل يكره الأسئلة بل يخافها. عدت ب «قضيتي» إلى المنزل. وجدت زوجتي قد أفاقت من النوم فرويت لها قصة المدرسة المفتوحة يوم الأحد والشرطة والعسكري على بابها والقط الذي يموء في ساحتها الفارغة فلم تنتبه كثيرا إلى سؤالي وأجابتني بمطة من شفتيها وارتفاع من يدها أنها لا تعلم شيئا عن كل ذلك.
أفطرت كالعادة حوالي الساعة الواحدة وانتظرت مشاهدة مقابلة رياضية محلية فانا لا أشاهد الكرة العالمية لأني لا أميز كثيرا بين الفرق المتنافسة. لست من هواة الكرة ولا أحب فريقا بعينه ولكني أشاهدها لأني لا أجد شيئا أخر افعله عشية الأحد.
تعجبت حين لم أجد أية مقابلة في أية قناة محلية بل وجدت برنامجا حواريا يتحدث في إحدى القنوات عن التنمية وأشياء أخرى صعبة لم أتبين معناها وعن انتخابات لا اعلم عنها شيئا. حينها فهمت سبب فتح المدرسة أبوابها يوم الأحد.
حين يئست من كرة القدم انتقلت الى قناة National Geographic وهي قناة أدمنت عليها منذ تقاعدي. شاهدت برنامجا شيقا عن القرود في غابات إفريقيا الاستوائيّة بالقرب من الأراضي المنخفضة الغربيّة، وبالقرب من ساحل الكاميرون عبر جمهورية إفريقيا الوسطى عجبت لصغر حجمها وخفتها كانت جميلة ورشيقة وممتلئة ولا أدري لماذا ذكرتني بالقط الهزيل الذي شاهدته في ساحة المدرسة.
حين أتممت مشاهدة برنامج القرود أغلقت التلفزيون وقضيت بقية اليوم متثائبا كئيبا وانتظرت بفارغ الصبر مشاهدة برنامج الأحوال الجوية، برنامجي المفضل. عدت إلى التلفزة قبل الثامنة بقليل اضطررت في انتظار الاحوال الجوية إلى مشاهدة بعض من نشرة الإخبار. كانت كلها تتحدث عن انتخابات لا اعرف عنها شيئا.
تساءلت عن سبب خلو المدرسة من الناخبين إذا كان اليوم يوم انتخابات كما يقولون في نشرة الأنباء. غير أني خمنت أن هذه الانتخابات تجري على يومين الأحد والاثنين وان الناس انشغلوا مثلي عنها ب «قضية» الأحد ومن لم ينتخب منهم اليوم فهو بلا شك سيصوت غدا يوم الاثنين 25 ديسمبر إذ دعا مقدم النشرة الإخبارية الناس إلى الإقبال على الواجب الذي يسميه انتخابي وأكد بحماس أن هذه الانتخابات ستغير وجه البلاد والعباد.
أما أنا فأكره كل شيء له صلة بالسياسة ولم انتخب يوما في حياتي إلا مرة واحدة حين كنت في الثامنة من عمري أرسلني أبي لأصوت مكانه. فقد كانت الدولة تعاقب من لا يشارك في التصويت استقبلني معلمي في مكتب الاقتراع بحفاوة وعلمني كيف أضع الورقة التي تحمل اسم الرئيس المرشح الوحيد كان ذلك في سنوات الستين. فوضعتها وأنا في غاية السرور. لا اذكر أني وضعت بطاقة أخرى بعدها في اي صندوق لآني حين كبرت شغلتني هموم الحياة عن السياسة وصناديقها.
ارتحت لفكرة أن الناس اجّلوا التصويت إلى يوم الاثنين. كان تفكيري متجها أولا إلى ذلك القط الحزين في ساحة المدرسة لعله سيجد غدا من يحن عليه بلقمة هو بلا شك في حاجة إليها بعد ان يؤدي واجبه الانتخابي.. نمت وأنا احلم أن أصير قردا في غابات إفريقيا الاستوائيّة فقد بدت لي سعيدة بخلاف قط المدرسة الهزيل.