المرأة .. كذبتنا الصّادقة

Photo

في مشهد سريالي أوّل يلامس اللّامعقول يقف العرّاف صاحب البرّاد لينفخ الماء الذّي يشربه في الهواء بقوّة في وجوه الحاضرين في حين تشخص عشرات النّساء واجمات وقد انقطعت أنفاسهنّ وزاغت أبصارهنّ ودمعت أعينهنّ ينتظرن ماذا يحدث ولا شيء يحدث غير ما توهّمنه من سحر..

في مشهد سرياليّ ثان تتحدّث إحدى المنتميات إلى حزب محسن مرزوق الجديد عن خمس ملايين من النّساء التّونسيات اللّاتي سينتخبن محسن مرزوق. خمس ملايين يعني أن نجمع كلّ نساء تونس اللّاتي في سنّ الانتخاب على اختلاف انتمائهنّ السّياسي: نهضويّات، ندائيّات من الشقّ المضادّ، دستوريات، جبهويّات، مستقلّات.. ونضيف إليهنّ بعض الميّتات رحمهنّ اللّه والمقيمات في مستشفى الرّازي والمشرّدات في الشّوارع كي نحصل على الخمس ملايين اللّاتي سيقفن في طوابير طويلة منذ الصّباح الباكر من أجل انتخاب محبوب " الملايونات " الذّي سينفث سحره في النّساء تماما كالعرّاف السّاحر..

في مشاهد سرياليّة أخرى سابقة، رأينا النّساء يدخلن في حالات هستيريا في الحملات الانتخابيّة للمرشّح السّاحر الذّي وعدهنّ بإنقاذهنّ من " الغول الإسلامي " وبحمايتهنّ من " الظّلاميّة " ومن قطع الأيدي ومن الحجاب والنّقاب ومن " جهاد النّكاح " قبل أن يكتشفن أنّ " المنقذ من الضّلال " قد وضع يده في يد " الغول " بعد أن دخل القصر وأنّ السّحر كان حيلة السّاحر لبلوغ السّلطة والاستجابة لأوامر السّاحر الأكبر: المسؤول الكبير..

هذه المشاهد " السّريالية " تؤكّد أنّ بين ما صاغته النّصوص عن المرأة وما دوّن حولها من تشريعات وقوانين وبين واقعها مسافات طويلة هي المسافة بين الحقيقة والمجاز..

أين المرأة؟ أبحث عن المرأة..

هل هذه المرأة الهستيريّة الخائفة المسكونة بالعقليّة السّحريّة والفهم السّاذج للعالم الذّي يجعلها ترى في بعض الرّجال / السّحرة الخلاص، هي " المرأة والنّصف "؟ هي " نصف السّماء "؟ هي الوطن الذّي لولاه " لكان كلّ الرّجال لاجئين " ؟ هل هي " المفخرة البورقيبيّة " ؟ بورقيبة الذّي يقال إنّه " حرّر النّساء ".. ماذا لو رأى النّساء يقفن صفوفا أمام عرّاف يبيع لهنّ الوهم ليطفئن به نارا وكمدا؟ ماذا لو علم أنّ أكثر من خمسين بالمائة من النّساء يتعرّضن اليوم إلى العنف بأشكاله المتنوّعة؟ ماذا لو عرف عدد النّساء اللّاتي يسألنك عمّا هو مكتوب في لافتة خضّار الحيّ من أسعار؟ بورقيبة الذّي يعود ليحتلّ ساحة الثّورة على جواده المتنطّع تنطّع حداثة لم تستطع أن تنفذ إلى أعماق مجتمع ظلّ يحتمي من عنف " حداثة " قسريّة ومن مخاوفها وتوحّش اقتصاد السّوق فيها بالتوغّل أكثر في السّحر والخرافة..

" الحداثة المتنطّعة " التي أريد لها أن تكون والتي تحوّلت إلى " حداثة لصوصيّة " مع الرئيس المخلوع أنتجت أنواعا من النّساء لعلّ أبرز مشترك بينهنّ هو التنطّع..

• امرأة متنطّعة في " حداثتها " ترى في نفسها النّموذج الأوفى في استعلاء غريب على من تضاددها وتعتبر كلّ خروج عن النّموذج خرق للنّمط الحداثي المقدّس وهي امرأة تغفل في تقديسها للنمط وتحويله إلى صنم أنّها تتصادم مع الحداثة التي تقوم أساسا على رفض المقدّس وعلى رفض الثّابت والصنمي وعلى مبدأ التطوّر: أساس كلّ حداثة.

• امرأة متنطّعة في رفضها للحداثة فترتدّ إلى القرار، إلى هاوية الماضي حيث السّلف هم الصّنم. وبين الدّين كرؤية إلى العالم غايته الإنسان وبين المتخيّل الدّيني الذّي أنتجته قرون امتزج فيها الدّين بالسّحر والخرافة واستلب فيه الإنسان تتيه المرأة وتضيّع البوصلة في بحثها عن الاحتماء والطّمأنينة في ظلّ الماضي وبعيدا عن حداثة صارت عبئا أخلاقيّا يوهم بتحقيق السّعادة ولا يحقّق سوى التّيه.

كلاهما متنطّعتان وكلاهما تعاني في تنطّعها تعاند في غيّها تبحث عن نفسها تضيّع المرأة فيها تغترب مكانا تغترب زمانا وقد يلتبس الأمر فتعيش عصورا مختلفة وأزمنة متعدّدة فهي " حداثيّة " " رجعيّة " " مابعد حداثيّة " تتلفّع ثوب الحداثة ولكنّها تسقط في هوّة الرّجعيّة بتوظيف مفاهيمها فتتحدّث عن الرّجولة وعن رئيس " أرجل " من آخر وبارتداء آخر صيحات الموضة وأدوات التجميل وارتياد المشعوذين والمشعوذات سرّا وجهرا بل قد يبلغ الأمر لدى " فنّانة " عربية " حداثية جدّا " إلى إعلان نيّتها مكافأة الشّخص الذّي يقتل " أبا بكر البغدادي " زعيم داعش بالزّواج منها واعدة إيّاه بقضاء أجمل شهر عسل.. غنيمة جنسيّة للقاتل تذكّرنا بغنائم الحرب قديما وتحريك الشّهوة إلى جسم يقاوم ترهّله بالعقاقير وعمليّات التّجميل التي ينتجها اقتصاد السّوق فتقع في سبي مضاعف: سبي تشييء المرأة وتسليعها كعارضة وسبي اعتبارها وليمة فراش كجارية وفي الحالتين تبرهن على أنّها فشلت في تمثّل الحداثة تمثّلا عميقا يتأسّس على حرية الإنسان وكرامته أوّلا وعلى التوجّه نحو الآتي بدل النّكوص إلى الوراء عجزا وجهلا وسبيا.

وبعد، لم تكن المرأة في ظلّ السّياسة المحليّة والسّياسات العربيّة ( رغم الاستثناءات ) سوى واجهة بلّوريّة لمّاعة للدّعاية والتّسويق والتّغطية على حقيقة مجتمع لم يعش ثورات حقيقية وطعن طعنات كثيرة غادرة كلّما أراد ذلك فظلّ يختزن موروثه الثّقافيّ السّلبي غافلا عن اللّحظات النيّرة فيه حيث المرأة كائن فاعل ومنتج وصاحب قرار. وفي ظلّ تشظّيها بين أوهام الحداثة وحقيقة النّظرة إليها وقعت المرأة في أوهام أخرى ومعارك خاطئة أبرزها معركتها الخاطئة مع الرّجل الذّي كان أيضا ضحيّة أخرى من ضحايا تمثّل مشوّه للحداثة ومعركتها مع رموز الدّين الذي اعتبرته أحيانا كثيرة عائقا أمام حريتها في فهم سطحيّ جاهز ومقولب له.

معركة المرأة الحقيقية مع أوهام حداثة معطّبة وأوهام موروث محنّط استلبا كيانها.. أوهام جعلت خسارات المرأة فادحة وأوّلها خسارتها لذاتها وأنوثتها ولبصيرتها وحكمتها..

نبحث عن المرأة اليوم. لا عن المرأة والنّصف.. ولا عن المرأة نصف السّماء.. ولا عن المراة الوطن الذي يلجأ إليه الرّجال..

حين نجد المرأة سنجد النّصف ونجد السّماء ونجد الوطن..

لنبحث عن المرأة.. أوّلا..

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات