بطّلنا إحساس.. وقّفنا الشّعور وقّفنا العواطف.. هذا حال كثير منّا أمام دمك يا باريس الجميلة..
هل ألوم أهلي أم ألومك؟
سال الدّم الفرنسيّ رقراقا على الأرصفة وفي الملاعب والمقاهي والمسارح.. وتلفّعت بالسّواد ولبست كامرأة حزينة ثوب الحداد.. ولكنّ شعور البعض منّا كان متحنّطا أمام الدم الأحمر الفرنسيّ.. متجمّدا كرأس ذلك الرّاعي الفقير الذّي بات في ثلّاجة أهله الفقراء.. ذات ليلة رعب.. ليلة واحدة قبل فاجعتك..
باريس.. نحبّك باريس.. نحبّ وجهك المشرق وإنسانيّتك النّاعمة كامرأة شقراء وعقلك الدّيكارتي وفلسفة جاك دريدا وميشيل فوكو.. وأدب بروست وسارتر وألبار كامو..لكنّنا بتنا تلك اللّيلة نرى في منامنا رأس الرّاعي الفقير الذّي وضعه وحوش الجبل في كيس بلاستيكيّ وكلّفوا رفيقه الصّغير أن يحمله به إلى بيت أهله فظلّ يطوف به كمجنون..
من صنع الوحوش يا باريس؟ من ؟
باريس.. أحبّك باريس.. أحبّ إيديت بياف تغنّي الحياة الورديّة وجاك برال يغنّي للعشّاق والثّورة وفيروز تغنّي في الأولمبياد :
باريس يا زهرة الحريّة يا ذهب التّاريخ يا باريس ..
رح نرجع ونتلاقى عالشّعر والصّداقة..
كالحقّ وكرامة الإنسان…
ولكنّ الرّاعي المذبوح مهدور الكرامة والوجود هنا صار أيقونتنا.. الإنسان المذبوح من الوريد إلى الوريد في إنسانيّته.. مبروك بن رابح السّلطاني. راعي الغنم المجهول الذّي دخل قلوبنا والتّاريخ من باب الشّهادة..
مبروك السّلطاني صار صديق عيلان وصديق محمّد الدرّة .. محمّد الرّاعي المذبوح وعيلان الطّفل المهجّر الغريق ومحمّد الدرّة الطّفل المغدور.. أيقونات لوجعنا الذّي صنعه وحوش التّاريخ..
فمن وحوش التّاريخ يا فرنسا؟
باريس أيّتها الشّقراء الجميلة التي تنظر إلى المرآة كلّ يوم لتتأكّد أنّها الأجمل .. انظري جيّدا في المرآة ستجدين في أعماقها وجه عجوز شرّيرة تحمل التّفّاحة المسمومة إلى الشّعوب التّي تتوق إلى التّحليق بأجنحتها نحو مدائن الحريّة والكرامة..
إنّها أنت يا باريس.. الامبراطوريّة العجوز التّي خلّفت سمومها فينا بعد أن أطعمتنا التفّاحة فأخلدنا للنّوم الحضاريّ وللجهل المركّب والمقدّس وللتبعيّة العمياء..
أيّتها العحوز.. أكره عنجهيّتك وأنت تساندين المستبدّين وأكره تدخّلك السّافر في حياتنا .. مخيالنا الجماعيّ مفعم بصور القتل الدمويّ الذّي مارستيه ضدّنا وذاكرتنا مثقلة والأرواح لم تتحرّر بعد.. ولم ننس دعوتك أثناء ثورتنا إلى مساعدة صديقك الرّئيس المخلوع بالأسلحة والمخطّطات..
إثر فاجعتك الأخيرة انفلت من الصّدور حقد أعمى على باريس الدّاعمة للإرهاب.. باريس الاستعماريّة التّي تموّل وتسلّح الإرهاب.. . ومن المنطقة المعتّمة في الأرواح أطلّ مصطفى سعيد بطل رواية " موسم الهجرة إلى الشّمال" لرّوائي السّوداني المرحوم: الطيّب صالح برأسه ليصرخ: " أنا طالب ثأر وغريمي في الدّاخل ".. مصطفى سعيد مقيم في هذا وذاك ويأبى انصرافا.
يتربّع قلوب الكثيرين مسكون بحقده ويحمل خنجره ويخمده في قلب المستعمر القديم المتجدّد ويعجز عن عبور نهر التّاريخ.. ذهب الطيّب صالح وبقي مصطفى سعيد يعلن مأزقنا التّاريخيّ في علاقتنا بالآخر: قوى الاستعمار القديمة.. المركزيّة الغربيّة التّي ما فتئت تؤكّد تفوّقها الذّي أقامته على جثث الشّعوب وعلى ما امتصّته من ثروات.. المأزق ضارب في التّاريخ والذّاكرة لم تشف وفي كلّ مناسبة ينفجر المكبوت التّاريخيّ حمما في وجه الغرب ليذكّره جرائمه وانتهاكاته وفي ضرب من التّصعيد للغضب المكتوم تحدث المقارنات بين راعينا الصّغير المذبوح من الوريد إلى الوريد وبين قتلاكم.
أبكي قتلاك يا باريس لأنّي أبكي الإنسان فهل تبكين قتلانا كلّ يوم في تونس وليبيا وسوريا ولبنان وفلسطين؟
أمّا الكثير منّا فقد بطّل الإحساس.. وقّف الشّعور ووقّف العواطف.. تحنّط كرأس الرّاعي المذبوح..
هكذا يصنع الوحوش الصّغار.. حين تتوقّف المشاعر وتقتل العواطف ويصبح قطع الرّؤوس مألوفا.. من فرط الدمّ الذّي يسال والقصف والدّمار الذّي يشارك فيه الوحوش الكبار.. وحوش التّاريخ وصنّاعه..
أحبّ وجهك الإنسانيّ.. أكره وجهك الاستعماري القبيح..
أنا لا أحبّك.. كم أحبّك..