هذه الكلمة كتبتها في 9 أفريل 2011 حين كان الحلم شاهقا أربعة أشهر بعد الثّورة وألقيتها بمناسبة عيد الشّهداء في دار من دور الثّقافة بإحدى المدن الدّاخليّة غصّت آنذاك بالمواطنين يمينا ويسارا ووسطا.. كان ذلك قبل أن نتيه وسط المعارك الزّائفة ونتفرّق ليتسلّل من وسط الشّروخ والشّقوق الأخطبوط فيقبض بأصابعه الروح الجديدة. كم كان الحلم كبيرا.
النصّ شهادة صغيرة تتعلّق خاصّة باستشهاد الطّفل وائل بولعراس وكان الشّقيق الأصغر لأحد تلامذتي الذّي درّسته تلك السّنة ( 2011 ) في الباكالوريا.
النصّ:
هذا تكريم لشهدائنا في عيد الشّهداء 9 أفريل 1938 و هو التاريخ الذي انتفض فيه الشّعب التونسيّ ضدّ المستعمر الفرنسي و شهد سقوط أكثر من 100 شهيد إثر التّصادم بين المتظاهرين التّونسيين الذين خرجوا في القصبة و في باب سويقة بالعاصمة للمطالبة ببرلمان تونسي و بإطلاق سراح المناضلين المعتقلين بأمر من المقيم العام الفرنسي.
هذا العيد يكتسي هذه السّنة و بعد ثورة 17 ديسمبر طعما جديدا و لونا جديدا بعد أن صبغ طيلة 23 سنة بلون واحد لشخص واحد لحزب واحد فأفرغ من معناه و دلالته. و هو إفراغ مقصود غايته تخريب الوعي لدى أجيال من التّونسيين و قتل الحسّ النضالي و القضاء على الثّقافة الوطنيّة و استبدالها بثقافة اللّامعنى و تهميش الإنسان.
هذه السّنة يتصالح عيد الشّهداء مع القيم التي يرمز إليها: قيم التّضحية و الفداء في سبيل الحريّة و الكرامة و العدالة الاجتماعيّة بعد سقوط أكثر من ثلاثمائة شهيد برهنوا على أنّهم قادرون على فتح صدورهم للرّصاص من أجل وطن مغاير لا يذلّ فيه الإنسان.
و هو عيد نتصالح فيه مع أنفسنا و مع هذه المدينة التي التحفت ككلّ المدن التّونسيّة و العربيّة عباءة الخوف زمن القمع و التّرهيب.و لكن ها هي تكسر حاجز الخوف ليلتحق بعض أبنائها بركب الشّهداء مثلما كسرته زمن الاستعمار الفرنسي لتقدّم شهداء الثّورة و الحريّة.
وفاء لهذه القيم ، و تأسيسا لذاكرة وطنية جديدة و لتاريخ جديد نقف اليوم إجلالا لشهداء ظلّوا في طيّ النّسيان زمنا، بل إنّ الخطاب الرّسمي للنّظام السّابق كان يعتبرهم ً شرذمة ضالّة ً وً عصابات مأجورةً في إطار سياسة التّضليل و المغالطة.
بين الأمس و اليوم قدّمنا شهداء لا يجب أن ينسوا لأنّ النّسيان خيانة و خذلان.
ففي حرب التّحرير ضدّ الاستعمار الفرنسي سقط في هذه المدينة عديد الشّهداء من بينهم شهيدتان من المقاومة هما: الشّهيدة زبيدة بنت عمّار صيدويّة و فاطمة بنت محمّد بن علي صيود. فضلا عن شهداء معارك جبال الخمير التي أخلدها التاريخ..
و في 26 جانفي 1978 قدّمت هذه المدينة الشّهيد محمّد نجيب بن يوسف الذي استشهد بتونس العاصمة إبان الأحداث التي عرفتها البلاد.
وفي 13 جانفي سقط الطّفل وائل بولعراس شهيدا و هو تلميذ بالثّانوي وقد استشهد إثر اختناق بغاز القنابل المسيلة للدّموع بالشّارع الكبير بالمدينة.
"وائل بولعراس ، تلميذ السنة الثانية ثانوي ، لم يكمل 17 ربيعا ، أصيب يوم 13 جانفي 2011 في الصّدامات التي وقعت بين الشباب الثائر و قوات القمع المسماة بقوات النظام العام ، استشهد وائل أمام قسم العيادات الخارجية عند تقاطع نهج باستور و شارع الحبيب بورقيبة.
وائل كان قد اصيب بقنبلة مسيلة للدموع على مستوى نهج 15 جانفي 1952 عند مدخل الربط ، فقد الوعي ، تلقى إسعافات أولية من رفاقه و بعض المواطنين إلا أن حالته لم تتحسن . ورغم الاشتباكات سارع به جمع من رفاقه إلى القسم الاستعجالي . أدركتهم فرقة النّظام العام على مقربة من المستشفى الجهوي ، رفع الأولاد أيديهم و صاحوا إنّنا بصدد حمل شاب إلى الاستعجالي لإسعافه..
لكنّ أحدهم أطلق رصاصا حيا في الهواء ، وتراجع المسعفون لينهال عليهم مرافقه بوابل من القنابل المسيلة للدموع أصابت إحداها وائل مباشرة على مستوى الصدرو كانت قاتلة . عاد أصحاب وائل ليحملوه إلى المستشفى و لكنه كان قد فارق الحياة على إثر هذه الإصابة. وصل وائل إلى المستشفى على الساعة 14.00 و لكنّه كان جثة هامدة
القابل التي كانت تستعملها قوات القمع هي على غير التّراتيب التي يمليها عليها القانون ، كانت صلوحيتها منتهية منذ سنة 1995 .
و في ثورة 14 جانفي 2011 طالت يد الغدر شهيدان هما المرحوم: لزهر الكثيري الذي استشهد يوم 16 جانفي 2011 له 47 سنة و لديه ولدان . وهو وكيل أوّل أصابه رصاص غادر ببنزرت عند محاولته إيصال سيّدة حامل كانت على وشك الوضع إلى مصحّة الرّواابي على السّاعة الرّاعة فجرا..و قد تحصّلت ابنته في مناظرة ختم التّعليم الأساسي على الرّتبة الأولى في ولاية بنزرت و الرّتبة الثّانية في الجمهوريّة.
و بين ثورة التّحرير و ثورة 14 جانفي سقط في عهد الرّئيسين السّابقين العديد من الشّهداء تحت التّعذيب.
لهذين الشّهيدين و لكلّ الشّهداء: شهداء الثّورة التّونسيّة و شهداء الثّورات العربيّة أقول : شكرا لكم لأنّكم ارتضيتم أن تكونوا الجسر الذي نعبره اليوم لنتخطّى مدن الخوف و القهر إلى مدن الحريّة و الكرامة.
فهنيئا لكم يا من رسمتم بدمائكم شكلا جديدا للوطن. أنتم خالدون في ذاكرتنا الجماعيّة. منكم نستلهم القيم و نحتمي من الانزلاقات. أمّا من قتلوكم و من أمروا بقتلكم و من ساعدوا على قتلكم ف " عابرون في كلام عابر " لن يبقى من ذكراهم سوى ما يبقى من العفن.
و نحن من هذه القاعة التي تمتلئ بالمناضلين على اختلافهم نطالب بمحاكمة كلّ القتلة الذين أوغلوا في دماء الأبرياء و الذين لا يزالون يجوبون الشّوارع و محاسبة كلّ المتورّطين في انتهاك الحقوق والأعراض و في قضايا التّعذيب و التّشويه محاكمة قضائيّة عادلة لا مجال فيها للمغالطة و التّزييف و التّسويف.
و يكفينا ما حدث من مغالطات و تمويه خلال تاريخ طويل بدءا من استشهاد فرحات حشّاد الذي لم تقع إلى يومنا هذا محاسبة قتلته وصولا إلى شهداء الانتفاضات و ضحايا التّعذيب الذين وقع التكتّم عن جلّاديهم.
و نهيب بالأحرار بأن يناضلوا من أجل أن لا تراق مستقبلا قطرة دم واحدة في سبيل فكرة حرّة، و من أجل أن لا تهدر كرامة في سبيل كلمة حقّ. و لا يكون ذلك بغير إرساء ديمقراطيّة حقيقيّة تضمن حريّة التّعبير و حريّة التّفكير و حريّة الاحتجاج .. و هي ثوابت المجتمع الدّيمقراطي اليوم.
و أختم بما قاله شاعر الثّورة الاسبانيّة: فريديريك غارسيا لوركا قبيل تطبيق حكم الإعدام بالرّصاص الذي أصدره ضدّه ديكتاتور إسبانيا: الجنرال فرانكو. سئل لوركا لماذا تكتب ؟ قال: أكتب كي أدافع عن ابتسامتي.
نحن أيضا سندافع بكلّ ما يتاح لنا عن ابتسامتنا و ابتسامة أطفالنا و ابتسامة أمّهات الشّهداء.