مرّت العاصفة وعاد الهدوء المخاتل رغم بقايا احتجاجات هنا وهناك تدلّ على أنّ القلوب اليائسة المعطّّلة عن الحياة لن تشفى إلّا بنيل حقّها وتحقيق العدالة ..
مرّت العاصفة وفي مرورها أثارت غبارا كثيرا وحفرت في عمق المجتمع والسّياسة لتكشف عطالة كبيرة في العقول والنّفوس..
غضب المعطّلين كشف عطالة السّياسيين وعطالة المجتمع..
عطالة سياسيّة لدى أصحاب السّلطة تتجلّى في تغييب البعد الاجتماعي للتّغيير الذي فجّر البركان الأوّل والاكتفاء بسياسة ليبيراليّة تحتفي بالحريّات وتكتفي بها فتتحوّل الحريّة على أهميّتها مصيدة حاذقة لتهميش المطالب الاجتماعيّة التّي تقتضي تفكيكا لقضايا جوهريّة مثل التّفاوت الجهوي وغياب العدالة في توزيع الوظائف والثّروات و الفساد الإداري والفساد المالي والتهرّب الضّريبي وبقاء الرّشوة والمحسوبيّة التي تجاوزت مستوى الأفراد لتصبح محسوبيّة أحزاب وتصبح الوظيفة محدّدة بالانتماء الحزبي..
الخيارات اللّيبيراليّة المفروضة لا يمكن ن تمثّل حلّا حقيقيّا بل قد تؤجّل فحسب الأزمة التي ستنفجر مرّات ما لم يقع الحفر الحقيقيّ في معضلات الشّباب الذّي يشعر بخيانة السّياسيين برمّتهم له ويراهم مجرّد مجموعات تتناحر في سبيل السّلطة.. عاد الشّعور باللّانتماء إلى الدّولة نتيجة تراكم الخيبات وصار التّمويه على الشّباب مستحيلا..
عطالة من في السّلطة تتجلّى في الارتباك أمام الأزمة مقابل عطالة المعارضة وتتجلّى بشكل سافر في سعي بعض اليساريين إلى القفز على الاحتجاجات لإلهاب " ثورة ثانية " لا تتوفّر شروط حدوثها وأهمّها بناء الوعي والقدرة على تأطير الاحتجاجات المنفلتة وتحويلها إلى طاقة تغيير إيجابيّة للتّغيير.
سياسة القفز لدى اليسار تكشف عطالة كبيرة لديه تجعله غير قادر على الامتداد شعبيّا وعلى القيادة والتّأطير فيكون اللّجوء إلى أساليب التّهييج والتّعويل على عفويّة احتجاجات التّلاميذ والمهمّشين للسّطو عليها وتوظيفها.
إنّ غياب القراءة الجدليّة للواقع وغياب النّقد الذّاتي والرّكض نحو سلطة لم يستعدّ لها وتهميش البعد الاجتماعي لدى يسار ليس يسارا اجتماعيّا بقدر ما هو يسار " طبقة وسطى " متذبذبة وغياب الدّيقراطيّة داخله وخضوعه ل " الزّعيم " وحرصه على تصفية حساباته يجعل موقف اليسار ممّا يحدث موقفا لا يحسد عليه لا يزيده سوى هروبا إلى الأمام بترويج ادعاءات وأوهام وقوعه ضحيّة مؤامرات.. منطق لم يعد يقنع أحدا ويعد بالتّهاوي..
غير أنّ العطالة في المجتمع أجلى وأوضح وأعنف..
مرّت العاصفة وكشفت أزمات أعمق داخل المجتمع ممّا هي داخل السّياسة.. ولعلّها انعكاس لما حدث هناك، فوق، داخل السّلطة من فساد واستبداد طيلة عقود.. فكان أن صار داخل كلّ تونسيّ ديكتاتور.. وداخل كلّ تونسي بن علي آخر..
" رصاصة واحدة بين عيني أحد النّاهبين كفيلة بالقضاء على كلّ أعمال الشّغب التي يقوم بها " الهوكش ""
هكذا كتب أحدهم على صفحته إبّان أحداث الشّغب والتّخريب التي قامت بها مجموعات من بينها أطفال أيّام الاحتجاجات .. وهي جملة لا تعكس عقليّة فاشيّة فحسب تتغلغل داخل " مثقّفين " تترسّب في أعماقهم ثقافة الاستبداد بل تعكس أنّ أسباب البركان الأوّل لا تزال قائمة وأهمّها ثقافة التّحقير التّي تجلّت في حجم الدّعوات إلى القتل وبطرق عنيفة ل " السّوقة والرّعاع والصّعاليك " الذّين قاموا بأفعال النّهب وصارت " الثلّاجة " المسروقة القضيّة الأولى بعيدا عن التّفكيك العميق للإنسان والمجتمع الذّي يكاد أن يتحوّل إلى حلبة اقتتال اجتماعيّ بعد أن امتلأت القلوب بالحقد والرّغبة في الانتقام من النّاهبين الصّغار.. احتراب يختلقه " النّاهبون الكبار " بين الشّرائح الاجتماعيّة المفقّرة التي تظلّ تتقاتل وتتبادل التّهم في ما بينها .. انحراف بالمعارك مرّات ومرّات .. يحتجّ المفقّرون فيدفع آخرون إلى التّخريب لإقامة الفوضى ويختلط الحابل بالنّابل وتتيه القضيّة بين الأقدام .. وينجو الكبار..
إنّ الأزمة ليست سياسيّة فحسب.. إنّها أزمة اجتماعيّة ثقافيّة تتّصل بالرّؤية إلى المجتمع والإنسان وبذهنيّة تحتاج تغييرا حقيقيّا فلا يكفيها إقامة دستور يضمن حقوق الجميع ولا جائزة نوبل للسّلام لتتغيّر بل تحتاج نقدا جذريّا للمفاهيم والتصوّرات والرّؤى التي تحملها وقطعا مع لغة العنف والاستبداد والتّعالي والتّحقير والغطرسة التي لن تنتج سوى مجتمعا مشوّها وفردا مضطربا ..
مرّت العاصفة لا لتذكّرنا فحسب بغياب العدالة الاجتماعيّة في توزيع حقّ الحياة بين الجميع بالتّساوي وإنّما لتعرّي بعنفها حقيقة ثقافة مجتمع تشرّب ما يكفيه من العنف والاستبداد فتحوّل الكثير داخله إلى ديكتاتور صغير قادر على إطلاق الرّصاص على الآخر المستلب كيانا وحريّة وكرامة فصار الضحيّة والجلّاد معا..
ماذا يمكن أن نبني بمجتمع ضحاياه جلّادون وجلّادوه يدّعون أنّهم ضحايا؟