العقل المعادي للحقيقة والكرامة

Photo

مارسوا كلّ الأشكال الممكنة لقتل الذّاكرة ولمحو الرّموز. كانت استراتيجيا جنّدوا لها كلّ السّبل المشروعة وغير المشروعة بدءا من حرق الوثائق التي تدين تورّطهم وإفراغ الملفّات وصولا إلى العبث بالذّاكرة وتحويل الضّحايا إلى مجرمين وقتلة ومعتدين على الدّولة وتحويل القتلة إلى ضحايا..

لم يكفّوا عن العبث بالذّاكرة وهاهم يواصلون محاولة السّطو على الحقيقة فبعد سعيهم الشّرس إلى إسقاط هيئة الحقيقة والكرامة ها هم يسرعون إلى تقديم بعض الملفّات في محاولة للتمويه والمغالطة أيضا وتعويم الأمر وتضييع حقّ الضّحايا الحقيقيين. وهي الهيئة التي حاربوها في البداية وسعوا إلى محاصرتها بكلّ الوسائل ولكنّ تصدّيها لمحاولة التّخريب والإفشال أربكتهم فكان " الطّوفان " لمحاولة إغراق مركب العدالة طريقتهم المألوفة التي مارسوها حتّى إبّان الانتخابات حيث تتمّ دعوة مجموعاتهم المنظّّمة إلى الخروج لترجيح الكفّة لطرف معيّن يخدم مصالح جهات باتت معلومة.

هي نفس الآليات التي يستعملونها دائما لإفشال كلّ نجاح للعدالة يمسّ من مصالحهم ويجرهم على إرجاع الحقوق المسلوبة إلى أصحابها ودفع تعويضات لضحاياهم وكشف الحقيقة عن الأموال المهرّبة وعن تهرّبهم الجبائي والفساد الذي مارسوه بأنواعه. إنّ الأمر يتعلّق بصراع بقاء وصراع حفاظ على المصالح وهو الصّراع العميق الذّي يحرّك كلّ شيء في الواجهة السّياسيّة التي لا نرى منها سوى قمّة جبل الجليد. فما يشنّ أحيانا من حملات على وزراء ومسؤولين يحاولون كشف الحقيقة أو فتح ملفّات مسكوت عنها ليس سوى تعبيرات ملتوية وماكرة عن صراع المصالح الذي يستعمل أقذر الوسائل وأكثرها خبثا وخديعة.

هذا العقل المنظم والمدبر المعادي للحقيقة لم يجد عقلا حرّا وجريئا مضادّا ولم يجد من المثقّفين المتصدّين له سوى القليل الذّين آمنوا بأنّ دور المثقّف أساسا هو الإصداع بالحقيقة وكشفها لا السّير في ركب المزوّرين والمزيّفين بل ساهم كثير من المثقّفين في فعل التّزييف حفاظا على مواقع أو طمعا فيها وسعيا إلى مناصب أو إرضاء لقيادات تقود أنصارها كالقطيع أو بسبب الوقوع في أسر الإيديولوجيا وكراهية الآخر والرّغبة في محقه.. الهدف المقدّس للكثير من أصحاب العداوات التّاريخيّة..

لم يجد العقل المعادي للحقيقة عقلا منتصرا للحقيقة " فالمثقّف " لدينا في أغلب الأحيان متردّد مهزوز يكتفي بالتّنظير ولا يمرّ إلى الفعل يجامل ويسير مع الغالب أو يتظاهر بالترفع.

غير أنّ ما أنقذ لحظة الانتصار للحقيقة هو هذا الدّفق الشّعبي لأجيال من الضّحايا والمناضلين وفئات اجتماعيّة متنوّعة انقادت بعفويّة إلى الهيئة بحثا عن إنصاف مفقود وعدالة ضائعة وسط تجاذبات سياسيّة قويّة كادت تقضي على هذه اللحظة التاريخيّة. لحظة الانتصار على العقل المعادي للحقيقة والكرامة.

ومرّة أخرى يبرهن المواطن العادي أنّه سابق لنخبه وسياسييه الذّين كثيرا ما يضيّعون البوصلة وسط الصّراع على السّلطة والكراهية المقدسة ويحاولون كلّ مرّة اللّحاق بحركة التّاريخ التي يقودها وعي جماعيّ عميق بالكرامة وبأهمية الحقيقة وسط فوضى مفتعلة وقيادات تأبى نفسها التعفّف عن المطامع فتوغل في صراعات مبتذلة بعيدا عن الكرامة الوطنيّة.

مرّة أخرى تسقط النّخب التي لم تفهم بعد الاهتزازت والردّات والاهتزازات الآخرى المنتظرة.. فالتاريخ يسير في حركة لولبية لا تتوقّف..

لذلك نحيّي أعضاء الهيئة على شجاعتهم ووقوفهم كالأشجار في وجه العواصف..

هنا في بلدي لا نقول للمحسن أحسنت.. فقط نحاول دائما أن نحبط ونشيع اليأس.. فشكرا لكلّ من ساهم ويساهم في هذا الفعل التّاريخيّ بعيدا عن العدميّة والإحباط..

ما يحدث هو حقّا " بؤرة ضوء "..

وكما حدّثنا يوما جلال الدين الرومي: " الحقيقة هي المرآة التي سقطت من السّماء لتتشظّى ولا يمسك كلّ واحد منّا إلاّ بشظيّة واحدة ". ولكنّ بعضنا يأبى حتّى الإمساك بشظيّة واحدة خوفا من أن تجرحه.. الحقيقة جارحة كثيرا لكنّها تظلّ كذلك.. تظلّ الحقيقة المشتهاة..

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات