الأمومة المسروقة

Photo

قد تسرق الأمومة كما تسرق كلّ الأشياء فمن فرط احتفاء المرأة بذاتها امرأة وعاملة ومن فرط سعيها إلى " إثبات الذّات " و " الثّأر التّاريخي لذاتها المستلبة " وكلّ هذه العبارات والمفاهيم التي تشرّبناها زمنا حتّى صرنا لا نعي ذواتنا إلّا من خلالها ومن فرط الجري وراء " المساواة " مع الرّجل عبر العمل خاصّة الذّي جنينا منه متعة تحقيق الذّات ولكن أيضا أعباء مضاعفة نتحمّلها بصمت حتّى لا نناقض أنفسنا ونعاند ذاواتنا كي لا نعلن هزيمتها المكتومة خاصّة في غياب تغيّر حقيقيّ في الذّهنيات.. من فرط كلّ هذا صرنا ذواتا ممزّقة بين مسؤوليات تفوق قدرتنا على الاحتمال فنضيّع أحدها وقد نضيّع أمومتنا.. هي أموتنا التي قد تسرق من حياتنا..

وعلى إيماني العميق بأنّ قيمة العمل قيمة ثابتة لا أرى نفسي إلّا من خلالها إلّا أني أعتبر الأمومة هي الحالة الأنثوية الأجمل..ولذلك أرى أنّ قرار الإطالة في عطلة الأمومة قرار هامّ وضروريّ في ضوء مجتمع لم يوفّر للأم العاملة رغم ادّعاءاته ما يكفي لتمارس عملها وتطمئنّ على أمومتها في آن ..

تحلم المرأة أن تحمل وحين تحمل لا تجد من يحمل عنها عبء الطّفل فتكون " أزمة الأمومة " ويكون الاكتئاب وكلّ المتاعب النفسية والجسديّة التي لا تعيها غير الأمّ حين تجد نفسها مضطرّة بعد شهر أو شهرين إلى تسليم رضيعها إلى محضنة قد لا تتوفّر فيها شروط الحضانة أو إلى جارة تدفعها الحاجة إلى استقبال أطفال رضّع دون توفّر الفضاء الملائم أو إلى جدّة لم تعد قادرة كما ينبغي على الاعتناء بالصغير. وتبدأ رحلة العذاب التي تجعل الأمّ لا تمارس عملها كما يجب ولا تمارس أمومتها كما يجب. هي الأمومة المسروقة منها خاصّة في الأشهر الأولى التي ينسج فيها ذلك الخيط الضّوئيّ الرهيف الذّي يربط الأمّ بالطّفل عبر الرّضاعة الطّبيعيّة وفيض العاطفة الذّي لا يصير الطّفل سويّا بدونه ولا يتحصّن بغيره من مطبّات الحياة.

الأمومة المسروقة تنتج طفولة مسروقة من أطفال يكبرون بسرعة داخل فضاءات لم تتهيّأ كما ينبغي للمحافظة على طفولة الطّفل ولعلّ هذا أحد مواطن الخلل لذلك يصبح من الضروري تحفيف العبء على الأمّ بمنحها وقتا أطول للحضور إلى جانب طفلها وإشباعه بالغذاء والعاطفة الطبيعيين.

طبعا لا مجال للمقارنة بين بلداننا التي لا تعني ولادة طفل شيئا كبيرا للدّولة وبين بلدان تحتفي بالإنجاب وتخصّص للأمّ والأب عطلة بسنة كاملة وأحيانا أكثر من سنة كما يحدث في السويد حيث تمنح الحكومة للأم والأب إجازة ب 480 يوما مع حرية تقاسمها بينهما في أيّ وقت يريدانه حتى سنّ الثّامنة في عمر الطّفل إلّا أنّ استحالة المقارنة لا يمنع من التفكير جديّا لدينا في مزيد الإطالة في عطلة الأمومة والأبوّة إن اقتضى الأمر وفي إطار تغيير الذّهنيّات تدريجيّا وأيضا التّفكير جديّا في إعادة النظر في التوقيت الإداري بحيث يكون بإمكان الأم والأب التفرّغ في النصف الثاني لليوم لرعاية المولود.

استعادة الأمومة لأمومتها لحظة ضرورية لاستعادة الإنسان إنسانيّته بعد أن تغيّر العالم واهتزّ فلم يعد بإمكان المرأة أن تعمل وهي تحمل ابنها على ظهرها تناغيه وتحاكيه كما كان الأمر مع النساء الفلّاحات والعاملات فلا يشعر بألم الفراق.

لم تكفّ المرأة طوال التاريخ عن العمل ولم تكفّ عن الأمومة لذا فكلّ دعوة إلى المساواة عبر القضاء على غريزة الأمومة وحنان الأنثى كما تعلن بعض الأصوات هو بحث عن مساواة وهميّة واغتيال للذّات قبل الآخر.

في عيد الأمّ ندافع عن الأمومة كأجمل ما منح للمرأة.. الأمومة التي تلملم أرواحنا المبعثرة وتقلّص اليتم الروحي في هذا الزّمن العاصف..

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات