ينايير شهر البشاير هكذا نقول صديقتي الجميلة قمر. ففي يناير ولدت الثّورة وفي يناير ولدت روايتي وفي يناير ولدت أمّي وولدت ابنتي وولد أخى سمير وولدت صديقتي قمر. هو يناير الذّي يأتي بعد خريف سقطت فيه بعض أوراق روحي وبقيت أرتجف عزلاء في انتظار جانفي علّه يمطر معاطف للروح.
جانفي شهر الثورة والحبّ والولادة. يوم عيد ميلاد أمّي وصلتني الدّعوة ويوم عيد الثورة كتبت مداخلتي وليلة عيد ميلاد ابنتي قدّمتها. هو الميلاد: ميلاد الثّورة والأفكار الحرة والنّاس الذين نحب. البارحة كان شتاء ساخنا كثورة متوهّجا كمعطف أفكار جديدة عميقا كحبّ كبير.
فيه التقيت عشّاقا للأفكار والثّورة والحريّة: الشّاعر المرهف ورئيس لجنة حفظ الذّاكرة وتلميذي البهيّ الذّي أفخر به عادل المعيزي.
وأساتذتي الأجلّاء: محمّد كشكار ومحمّد بن رجب ومحمد ضيف الله.
والزّميل العزيز صاحب المواقف الجريئة سامي الزواري وخيرة نساء تونس الجميلة: خولة بن صابر والسيّدة الهمامي وكوثر وفدوى.. وتلامذتي القدامى الذّين صاروا رجالا فاعلين في تونس وابني قرّة عيني..
أيّ ثورة جميلة يمكن أن تجمع في برزخها: برزخ مابين بين. بين القديم المتآكل الذّي يرحل بعسر والجديد المتوهّج الذّي لا يأني بيسر كلّ هؤلاء العشّاق للثّورة؟
مداخلة العزيز عادل المعيزي أكّدت على أهميّة الذّاكرة الفرديّة في التوثيق بطريقة إبداعيّة لانتهاكات حدثت في الماضي وأنّ رواية برزخ العشّاق رصدت في جانب منها أحداث الثّورة وتفاعل الأبطال مع تلك الأحداث. كما أكّد على أنّ إسكات الأصوات الإبداعية والفنية يتمّ بأشكال مختلفة، مشيرا الى ان السّلطة تعمل على الحجب والنّسيان.
الباحثة وعضوة لجنة حفظ الذّاكرة الجميلة خولة بن صابر قدّمت مداخلة قيّمة تعد بظهور ناقدة فذّة. قراءة خولة النّقديّة للرّواية كانت حفرا وراء المعنى من خلال تفكيك الخطاب والرّموز والمراوحة بين الواقعيّ والمتخيّل فيها.
في مداخلتي تحدّثت عن مساهمة لجنة حفظ الذّاكرة مع أصدقاء آخرين كتبوا عن الرواية في فكّ " الحصار" الذي تعيشه الرّواية على خلفية طبيعتها ، وأكّدت ايماني بأن ما شهدته تونس من 17 ديسمبر 2010 الى 14 جانفي 2011 كانت لحظة ثورة، هي ثورة غير قابلة للتصنيف ولا يمكن وضعها داخل قوالب جاهزة لثورات سابقة.
روايتي برزخ العشّاق هي محاولة لكتابة الذّاكرة أو للحفر في الذّاكرة العميقة من خلال سرديّة قد تكون مغايرة لبعض السرديّات الأخرى ولا أدّعي امتلاك الحقيقة أو اليقين بل أريدها مناسبة للتّفكير المشترك وتجديد الفهم.
كنت أسأل: كيف نحفر في الذّاكرة العميقة لنجد كنز المعنى الدّفين؟ كيف نزيل الصّدأ عن الذّاكرة لنرى معدن الفكرة؟ كيف نحمي الذّاكرة من احتكار البعض لها؟ كيف لا تكون الثورة مجرّد لحظة للنّسيان؟ أو تجربة للنّسيان؟ كيف نواجه استراتيجيا كاملة لمحو الرّموز؟
كان هذا هاجسي وكنت أعيش ألما مضاعفا: ألم الشّعور بانخطاف الثّورة وألم الشّعور بعدم كتابتها. ومن هنا بدأت المغامرة: من لحظة ألم جارفة ممزوجة بفرح طفوليّ خفيّ بأنّنا ربّما قد أنجزنا شئا جميلا في لحظة ما ولا بدّ من كتابته لحمايته من الخسران.
تحدّثت عن دلالة حضور جهازين في الرواية: وزارة الدّاخليّة ووكالة الاتّصال الخارجي. جهازان نحتاج اليوم إلى تبيّن دورهما الكبير في إنتاج الإنسان المهدور. الإنسان المعطّب عقلا وروحا نتيجة ثقافة الهدر التي روّجها إعلام خيّم على الوعي الجمعيّ عبر الشّعوذة وأخبار المحاكم ونشر الجرائم وعبر قلب الحقائق وتضخيم الأوهام وهي كلّها أدوات تضليل أنتجت خواء فكريّا وروحيّا لا يزال قائما.
هنا تأتي في الرّواية صورة التونسي الذّي يعيش داخل زجاجة ولا يعنيه ما يحدث. فداخل أنساق الهيمنة والاستبداد التي يعاد إنتاجها بين بورقيبة وبن علي كلّ مرّة بنمط مغاير وطوال عقود يصبح المشروع الذّي يراهن عليه الإنسان هو فقط ضمان الحدّ الأدنى للبقاء. لبقائه.
وداخل أنساق الهيمنة والاستبداد يدبّ الفساد تدريجيّا كدود يدبّ في الأرض ويحوّلها إلى تفّاحة منخورة برائحة عطنة.
وكان يجب أن تأتي اللّحظة التي تنكسر فيها الزّجاجة التي اختنق فيها الإنسان دهرا وأن تفتح الميموزا أوراقها للحياة وتطير زهورها الصّفراء في الفضاء.
في المقابل كان السّعي إلى احتواء اللّحظة والسّيطرة عليها بكلّ السّبل بتضخيم الصّراعات الهوويّة وبالاغتيالات والحرائق وبالإعلام وصناعة الخوف والإرهاب.
وكان الإرهاب إنتاجا للعدميّة والرّعب والفراغ بعد الامتلاء بالمعنى. لم يكن الإرهاب دينا. كان تعبيرا عن هويّات هجينة بلغة ادوارد سعيد. عن عدميّة ناتجة عن فقدان الدّور والقابليّة لأيّ دور. كان الأداة الأنجع وسط الغباء المؤقّت الذّي يصنعه الإعلام لمواجهة الحراك الاجتماعي وضمان استمراريّة الدّولة التّابعة. كانت الفوضى هي السّبيل للإرباك والتعمية.
وكان العبث في أقصاه. " وكان الخوف مخلب ذئب ينهش الذّاكرة ويخلق الحنين إلى زمن قديم مضى. مشى الناس بالخوف حتّى قالوا: هذا أوان الخوف لنعد كما كنّا " ص 150
ولكي لا نكون مجرّد دمى في مدن أراجوز كما ذكرت في الرّواية ولأنّ الرواية لا تذعن لأوامر المسؤول الكبير كان لا بدّ من تدوين ما يراد محوه. استراتيجيّة المحوالتي طالت حتّى الشّهداء لذلك كان لا بدّ من تصويرهم في مشهد سرياليّ ومن تسمية الكثير منهم.
يصبح النصّ في اقصى طموحه رغبة في رسم أفق لحراك لا يجد لنفسه أفقا. ربّما نحتاج في هذه اللّحظة الرّوائيّ والشّاعر والفيلسوف لإيجاد الأفق حين تعجز النّخبة السّياسيّة. وحدهم يصنعون السّماء حين تغيب. وحدهم يعلّقون الفوانيس ويضيئون في ليل التّيه. وحدهم ينسجون خيوط الانتماء الفضيّة في عالم معولم مرعب ومخيف يقذف بنا نحو العدميّة. الانتماء إلى شيء ما جميل. قد يكون قصّة حبّ بين الصّحفيّ الشّهيد والمرأة الجميلة: امرأة الميموزا التي تظلّ وفيّة لحبّها عشرين سنة وأكثر. كما في الرّواية.
ويصبح النصّ في أقصى طموحه أيضا نصّا يراقص الموت لينتصر عليه أو يتوهّم الانتصار. رقص المقتول حين عرف قاتله. ألا نحتاج إذن المعرفة لنتحرّر من الموت؟
هي رواية تنتصر للمعرفة سبيلا لإعادة بناء الذّات. تنتصر للحياة وللحبّ وللثّورة.
في النّقاش الجميل كانت مداخلة النّاقد والصّحفي الكبير محمد بن رجب تذكيرا بأنّ أجمل ما في الرواية هو ما لم يتمّ الحديث عنه في المداخلتين وهي قصّة الحبّ الممتدّة على امتداد الرواية بين الصّحفيّ والمرأة الكاتبة بدورها. وهو حبّ مبتور بسبب القتل الذي تعرّض له الصحفي إثر عودته. سي محمد كان أنيقا كعادته سخيّا في تحليل الرواية.
الدّكتور محمد كشكار أخجلني بإطرائه وتواضعه وهي صفة العلماء. سي محمد قال في تعريف الثورة:
" قلتُ كلمةً في ليلى والآن سأقول كلمةً في الثورة، والثورة وليلى أخوات: الثورةُ لحظةُ انبثاق. ويمكن لانبثاقٍ أن يشبهَ انبثاقًا سبقه أو لحقه أو سيلحقه. ومَن رفضَ الثورةَ هو شخصٌ كبّله وعيُه، وكلما ارتفعَ الوعيُ الإيديولوجي غير النقدي، كلما قَلَّ الفعلُ، وسَجَنَ الوعيُ حاملَه داخل براديڤمٍ ثوريٍّ مَحَنَّطٍ. حاملُهُ، الإنسانٌ الواعي المؤدلَجُ، رفضَ المولودَ وهو عَمُّ الوَلَدِ أو الوالِدُ نفسُه، وكأنه كان ينتظرُ أن يكون الولدُ نسخةً من أبيه. وكل ما يأتي بعد الثورة فالثورة ليست مسؤولةً عنه. الثورةُ وضعتْ ويكفيها شرفًا أنها وضعتْ. وهل الوضعُ مهمةٌ سهلةٌ؟ وهل يرجعُ المولودُ إلى رحمِ أمِّهِ، حتى لو أنكرهُ الناسُ جميعًا؟
ماذا وضعتِ الثورةُ؟
وضعتْ الحريةَ، وما أدراك ما الحريةُ؟ الحريةُ كالماءِ تجعلُ مِن كل فردٍ منا بشرًا حرًّا... حرًّا غير مقيَّدٍ من الداخلِ. أما إزالةُ قيودِ الخارجِ، فتلك هي مهمةُ الفردِ الحرِّ وليست مهمةَ الثورةِ. الثورةُ أنْجَزَتْ مهمتَها، فانْجِزْ أنتَ مهمتَكَ".
الزّميل سامي زواري طرح سؤالا مهمّا: لم لم تنته الثّورة كلّ هذه السّنوات رغم كلّ محاولات الفتك بها؟ وقدّم شهادته حول ما وقع يوم 13 و 14 جانفي من خلال مشاركته في الأحداث.
تدخّلات الحاضرين كانت مبهجة للنفس بعمقها وإيمانها بالثّورة.
ولكنّ بهجتي كانت لا حدود لها بتسليم عادل تلميذي الذي صار رجلا عظيما شهادة لي. هكذا يفوق التلميذ أستاذه فيسعد الأستاذ أكثر.
كنت سعيدة. ولم يكن ينقصني في جانفي سوى أبي لأروي له بكلّ التّفاصيل الجميلة ما حدث لي البارحة.