في هذا اليوم من شهر أكتوبر ألقى الزرّاع بذرتهم في أثلام الواقع ومرّوا. لم ينتظروا ظهور السّاق وانفتاح الأوراق فهم منشغلون ببذور أخرى في خريف ماطر. ألقوا بذرة الأمل ومرّوا.
في خمس سنوات. في خمسين سنة. ستثمر حتما بعد أن تكون قد امتلأت بالوعي وأثقلت بالفعل والمراكمة. كان السّؤال الأوّل: هل يمكن أن نلتقي؟ فلم يكن أمامنا سوى أن نلتقي. والتقينا يوم 14 أكتوبر 2016 تحت لافتة "لنزرع الأمل"، سياسيون ومثقفون، متحزبون ومستقلون. هناك أرض تتهيّأ امتلأت بالرّواء تستدعي العمل وتطلب اللّقاء. وكان اللّقاء جميلا هادئا عميقا واقعيّا حتّى الحلم حالما حتّى الواقع.
بدأه الأستاذ المؤرّخ سي محمّد ضيف الله بعرض عميق لتاريخ المعارضة في تونس وبطرح لمستقبل السياسة وقد لاحت بوادر انسداد الأفق، و " عندما ينتفي الحلم يظهر الكابوس ". فكيف يمكن فتح ثغرة في الأفق السياسي؟ كيف نزرع الأمل وقد سادت الخيبة؟ كيف نزيح الكابوس؟
الضيوف رموز لمعارضة تاريخيّة ممتلئون بالرّصيد النضالي ومعارضة شبابيّة ثوريّة ممتلئون بالعزم الذي لا يفلّ وبالرّؤية الثّاقبة. فكّروا معا بصوت عال متحرّرين من زعاماتهم وانتماءاتهم الحزبية ومن اختلافاتهم وخلافاتهم وسعوا إلى تفكيك الواقع وفهم ديناميكيّته.
الرئيس الدّكتور محمّد المنصف المرزوقي دعا إلى عدم فصل ما يحدث في تونس عمّا يحدث في الوطن العربي وتحدّث عن مساعي إجهاض الثورات العربية عبر الحروب الأهليّة وعن فشل الثّورة في تونس، ولكنّه أكّد أيضا على فشل الثّورة المضادّة وتخبّط المنظومة القديمة في فشلها ومساعيها إلى الخروج من فشلها بتصعيد التّزييف والعنف. وشخّص المرحلة بأنّها مرحلة التّدمير التي تسبق البناء وأكّد على أنّنا جزء من البناء في مواجهة التخريب، وأنّ واقع البناء يجب أن يتشكّل فكريّا وقيميّا، ويحتاج وقتا طويلا وتحمل مشعله الأجيال القادمة.
الأستاذ عبد الرؤوف العيادي أكّد على أنّنا مطالبون كشتات ثوريّ بتحديد المشترك، بالبحث عن المشترك من الأفكار موضّحا غياب خطاب ثوري والحاجة إلى ورشات نشتغل عليها لتفكيك المفاهيم ومواجهة الخطاب المضاد للثّورة. وبيّن أنّ منظومة التبعيّة قد أنتجت الفساد وأنّ الثورة يجب أن تكون حكم الشّعب على الفساد والتّهميش وإعادة بناء الاستقلال والسيادة الوطنية.
الدّكتور محمّد كشكار بحماسه وإيمانه العميق بالثورة نقل لنا بعض دروس تجربة جمنة وهو ابنها الأصيل ليتحدّث عن التشاؤم والتّفاؤل: "المتشائم في جمنة مش ممكن يتصوّر يوصل نهار جمنة تولّي عندها قيمة ويسترجعوا الناس أملاكهم ويخدموها"، ومنطلقا من مفاهيم علميّة لتبرير التّفاؤل: ضدّ الحتميّة، التّفاعل بين الناس الذّي أنتج في جمنة ذكاء اجتماعيّا خلّاقا، الإنسان المنفتح على كلّ التوقّعات والاحتمالات. وتساءل : هل يمكن أن تكون جمنة بوابة لحلول في المستقبل؟ متحدّثا بإسهاب عن التّجربة بعقل العالم وروح الشّاعر. جمنة وحّدت النّاس ضدّ الفساد ووحّدت المتأدلجين وذوّبت خلافاتهم. جمنة جمعت اليساري والنّهضاوي والمستقل والقومي فاستطاعت أن تصنع القوّة.
السيّد رياض الشّعيبي شخّص الواقع الراهن وعاد إلى الانتخابات الأخيرة في قراءة لها وبيّن مخاطر البطالة والفساد وقابليّة الواقع للانفجار، وأكّد أنّ حكومة يوسف الشّاهد ما هي إلّا ترتيب للمشهد اللّاديمقراطي القادم بالهيمنة على المؤسّسات. وتساءل: هل هناك فرصة للتّغيير بالآليات الدّيمقراطيّة؟ ما الممكن الذي تستطيع المعارضة أن تطرحه؟ أين الرّأسمال الوطني؟ أين النّخبة؟ ودعا إلى ضرورة ربط النّضال من أجل الانتقال السياسي بالنضال من أجل الانتقال الديمقراطي وإلى ضرورة رسم مشروع فالديمقراطية الآن دون مشروع والمشروع القائم هو الأجندات الخارجيّة..
الأستاذ العياشي الهمامي أكّد على التوتّر والاحتقان الاجتماعي المتصاعد وتحدّث عن هجوم السّلطة ببرنامجها الحالي على الطبقة الضّعيفة فلا حلّ لها سوى " الافتكاك من الشّعب " للخروج من المأزق. في المقابل هناك تشتّت للمعارضة وغياب بديل لأيّ معارضة سياسيّة أمام التوتر المتصاعد داعيا إلى تشخيص عجز المعارضة تشخيصا دقيقا.
تدخّل أحد العاطلين عن العمل كان مميّزا وقال إنّه سينقد من أمامه من الزّعماء وقد دعا السياسيين إلى تحمل مسؤوليتهم التاريخيّة مبيّنا الإخلالات التي وقعت وأفضت إلى الانحراف عن مسار الثورة وأنهى مداخلته قائلا: أنتم تتحملون مسؤولية ما يحدث أكثر من الباجي.
أنيس مناعي أعلن أنّه كشاب لا تعنيه معارك السّاسة القديمة ودعا إلى لمّ الشّمل وبعث كيان ديمقراطيّ موحّد لحماية مسار الانتقال الدّيمقراطي المهدّد والحراك الاجتماعي السّلمي متسائلا: هل كرّسنا ثقافة الثّورة؟
الأستاذ محمّد عبّو أكّد أنّ المنطق يفضي إلى القول بسقوط الثورة فالنّخب لم تؤدّ دورها التاريخي وكان هناك خوف من عودة الاستبداد عن طريق النّخب التي تملؤها الصّراعات والحسابات والإيديولوجيا والحقد وسلوكات بن علي المتوارثة. والمشاركون في الثّورة أقليّة ومن ضربوا بالرّصاص هم الجياع. وبيّن غياب الإمكانيّة للتطوّر في ضوء هيمنة المصالح فالمعركة عنيفة مع الفاسدين وحماية المسار الانتقالي مطروحة على المجتمع المدني أيضا وأنّ الحلّ يقتضي اجتماع شخصيّات وجمعيّات وأحزاب حول أهداف مشتركة وضرورة التّنازل من أجل مصلحة الوطن الذّي تحكمه ماكينة القوى المتحكّمة.
الشاب المثقّف مالك الصغيري أكّد على أنّ البلاد مقبلة على تطوّر الوعي وأنّ البلاد تتدرّب على النّضال خاصّة بعد تجربة جمنة وأنّ المراكمة ضروريّة. المعارضون المزيّفون انكشفوا ودفاعهم عن السّلطة كشفهم كما كشف الحراك الاجتماعي الحقيقي وجود مناضلين أمثال الطّاهر الطّاهري اليساري الجميل الأنيق غير المتأدلج. مالك رفع نسبة الأمل في تدخّله وألقى ظلالا وارفة من تفاؤل الشباب.
الزرّاع ألقوا البذرة في خريف ماطر وأكّد المشاركون أنّ الشّتاء سيكون عاصفا. فماذا سنفعل أمام العاصفة؟
هي الحيرة المشتركة التي يجب أن تتحوّل إلى تفكير مشترك دائم ومستمرّ بحثا عن إنتاج فكري وسياسي جديد بعيدا عن ادّعاءات المغرورين ومزاعم مالكي الحقيقة.
تجربة جمنة تعلّمنا التّواضع والعمل بصمت ومحبّة. وكذلك هم الزرّاع..