قطع رأس تمثال أبي العلاء المعريّ في معرّة النّعمان وظلّ العرب بعده يتناحرون و" كلّ يعظّم دينه".
قطع رأس تمثال أبي العلاء وازداد تعطّب العقل العربيّ الذّي ما إن يشتغل قليلا ويبدأ في التّأمّل والتدبّر والتبصّر والتفكّر في المستقبل حتّى يأتي ما يشدّه إلى الوراء ويعيده إلى الدّرجة الصّفر من التّفكير.
لم أجد أبلغ من بيت أبي العلاء المعرّي أقيس عليه محنتنا الجديدة فما أعاينه من أصداء الاحتقان الطّائفي الذّي وصل صداه إلينا بين أنصار هذا وأنصار ذاك وردود الأفعال المتشنّجة ذكّرتني مقطوعته: في اللّاذقيّة فتنة .." . وما ينشر على صفحات نجمت بسرعة كالفقّاع تتحدّث عن تشيّع تونسيين هي مؤشّرات لفتنة يراد لها أن تكون. والفتنة ليست جديدة بل هو موغلة في ماضينا قديمة قدم هزائمنا في تاريخ يحاول أن يزهو بأمجاده فيحاصره التّناحر. و الفتنة تفتن النّاس وتفتن بينهم فينساقون إليها في تطرّف عجيب " كلّ يعظّم دينه " بلغة أبي العلاء المعرّي. أبو العلاء الشّاعر والمفكّر والفيلسوف الذّي لم ينج من جنون عصرنا فكان الاعتداء على تمثاله في معرّة النّعمان مسقط رأسه استراتيجيّة غايتها محو رموز العقل في هذه الحضارة العربيّة الإسلاميّة التي توشك أن يصيبها الجنون.
أبو العلاء يختم مقطوعته بقوله: يا ليت شعري ما الصّحيح؟..
وفي كلّ ما حبّر عن " الحرب الطّائفيّة " لست أدري أنا أيضا ما الصّحيح؟. فالحقيقة تظلّ نسبيّة دائما والتّحاليل التي تنتصر لطرف دون آخر تظلّ ممتلكة لبعض الحقيقة لا كلّها.
ولكن وراء هذا الدّخان الكثيف الذّي تثيره الحرائق الطّائفيّة هنا وهناك كثير من " الصّحيح " وكثير من الحقائق المفزعة التي نغفل عنها ولا نكاد نراها وقد غشيت المعارك الخاطئة أبصارنا.
ففي بلادنا العربيّة حيث ننشغل بالتّناحر الطّائفيّ الذّي ينتقل كالعدوى نغفل عن النّظر إلى وجهنا الحقيقيّ في المرآة حيث مدائن الرّعب بانتظارنا.
في الوطن العربي يوجد قرابة 80 مليون أمّي كما يوجد قرابة8 ملايين طفل في سنّ المرحلة الابتدائيّة خارج المدارس. ولا تتجاوز نسبة الإنفاق على التّعليم العالي 1بالمائة من ميزانيّات الدّول العربيّة. في المقابل ينفق الكيان الصّهيوني على التّعليم ما يقارب 5 أضعاف ما تنفقه مصر.
في الوطن العربي حيث التّناحر الطّائفيّ هناك نسبة بطالة تصل 20 بالمائة أي قرابة 80 مليون عاطل عن العمل. كما يوجد قرابة 11 مليون شخص في الوطن العربي يعيش الواحد منهم على أقل من دولار يوميّا وهو دليل فقر مدقع حسب التّقارير الأمميّة.
وسط هذا الكمّ الهائل من الجهل والفقر تنتعش الحرب الطّائفيّة وتجد لها أنصارا ممّن لم يقرأ كتابا واحدا في حياته.
وفي هذا الوطن الذّي يتقاتل طائفيّا صنّفت الشفافية الدولية ليبيا والسودان والعراق وسوريا ضمن الدول العشر الأكثر فسادا في العالم وهو فساد يشمل جميع المجالات.
وفي هذا الوطن يهاجر الشّباب فارّا من مدائن الرّعب متوخّيا كلّ السّبل وخاصّة شبكات التّهريب السريّة فينتقل بعضه من مدائن الرّعب إلى شواطئ الموت.
وسط هذا الخراب الذّي ينخر الكيان نجد المجال للخوض في معارك طائفيّة لا تعنينا بل تزيد في تآكل هذا الجسد العربيّ الهشّ ولا تخدم سوى مصالح الدّول التي تشعلها كلّ آونة وفق غاياتها وأهدافها.
الشّروخ الطّائفيّة التّي يتمّ تعميقها وتصديرها وترويجها ويغرق فيها الكثير بسرعة في حرب كلاميّة مجنونة ستبتلع ما بقي من أحلامنا حول وطن عربيّ متماسك وقويّ.
والأخطر من الطّائفيّة بمفهومها السّائد هي " الذهنيّة الطّائفيّة " التّي تشيع لدينا وسط أحزاب وجماعات إسلاميّة وعلمانيّة ويساريّة فيهيمن التّخوين والعنف الكلامي والعزل الاجتماعي ويصبح السّلوك منغلقا نابذا الآخر المختلف. وهو سلوك " طائفيّ " نلمسه هنا وينتشر في بلدان عربيّة عديدة وشعاره أساسا: من ليس معنا فهو ضدّنا.
الهذيان الطّائفي الذّي يشيع هذه الأيّام يؤكّد أنّنا لم ندخل بعد عصر الدّولة الحديثة حيث المواطنة في أبهى تجلّياتها هي القبول بالتّعايش المشترك فلا يكون الآخر المختلف مشروع " قتل " أو " إقصاء " أو " عزل ". إنّنا لا نزال نعيش جمهوريّة " جنونستان " التي تحدّث عنها نزار قبّاني.
وكم كان نزار قباني جريئا حين قال في " جمهوريّة جنونستان ":
“إن اقتسام الله هو الحلّ العلمي الوحيدلإرضاء جميع الطوائف ”