موتكم عبء على الدّولة فلم تموتون بهذه الكثرة فجأة؟ دولتنا لا تحتمل الموت الجماعي الفجئيّ فهي لم ترتّب نفسها للأشياء الكبرى. يكفيها الموت الصّغير. لا مال لها للمشفى ولا أطباء ولا سيارات إسعاف ولا تجهيزات ولا طرقات معبّدة ولا طائرات عموديّة للإنقاذ ولا شيء من الشّيء.
فلم تحرجون دولتكم بالموت؟ أما كان لكم أن تظلّوا أحياء قليلا؟ ألم تسألوا " ماذا وراء الموت؟" لا لا ليس وراءه إجابة الشّاعر.. وراء موتكم هشاشة دولة غير قادرة على تحمّل موتكم كما لم تكن قادرة على تحمّل حياتكم فتتجاهله قليلا وتنشغل بالأغاني في المذياع وبإشاعة الفرح الكاذب والترويج لصور الموكب السّعيد في قرطاج والدّعوة إلى عدم التّهويل فالأفق جميل والحياة أجمل. دولتكم لا يعنيها الموت فهي منشغلة بصناعة الحياة وكانت قبل يوم توصيكم بالوقوف جميعا لتونس فإذا بكم تتهاوون الواحد تلو الآخر في خذلان لها فمن أنتم؟ وكيف تخذلون دولتكم؟
موتكم عبء على الدّولة فهي ستتعب في تراتيب الجنازات وفي غياهب التحقيقات وتنقّل المسؤولين الخائفين من ظلّكم وسترهقها البكائيات الجماعية والمناحات هنا وهناك وحنق الحانقين وغضب الغاضبين فموتوا بصمت المرّة القادمة أو ابقوا هنا .. صامتين أيضا..
وأنت أيّها الجريح كيف تجرؤ على جرح الدّولة بقولك: ليس لنا سبيطار وليس لنا ولاية؟ ألم تراع شعور الدولة وإحساسها المرهف؟ الحمد لله أنّك تداركت وقلت إنّك لا تريد أن تجرح الدولة وإلّا ما غفرنا لك زلّتك. ولا تنسى أنّ الدّولة مشغولة جدّا هذه الأيّام وليس لها من الوقت ما يسمح بالالتفات إلى جروحك. لا تكن عبئا عليها والزم حدودك.
ثمّ ماذا فعلتم أيضا؟ حكومتكم تدعوكم إلى التقشف لحلّ الأزمة وأنتم تتسبّبون بموتكم في مصاريف جديدة باهظة فماذا فعلتم؟ موتكم عبء وحياتكم عبء فما كان عليكم أن تحيوا وما كان عليكم أن تموتوا.. وليس عليكم حتّى أن تظلوا بين بين.. في منزلة بين المنزلتين.. إذن جدوا لنفسكم شيئا آخر لا ندري ما هو.. كونوا ما شئتم.. ترابا في الثّرى.. غبارا في الهواء.. المهم ألّا تعيقوا إرادة التقشف في الوطن..
ثمّ .. الأدهى أنّكم بموتكم تفتحون شرخا في الذّاكرة المعطّبة.. موتكم يثير ركام التّاريخ المحاصر بالطرق الإعلاميّ وبإرادة التزييف والنّسيان.. يحرّك رائحة العفن القديم.. يعرّي ويفضح..يذكّر بالفساد القديم الجديد وبدولة اللّادولة وبالحداثة الرثّة وبسياسة التهميش وبالطبقيّة والجهويات وبالحقرة والتفاوت والسياسات الفاشلة وب " الآلهة التي تفشل دائما ".. يحرّك العقول المعطّبة ويوقظ التفكير.. التّفكير.. توقّفوا عن الموت.. لا نريد تفكيرا.. لا نريد إفراطا في التّفكير.. أنتم تزعجوننا..
آسفة.. آسفة جدّا.. هي السخرية من وجودنا المرعب ولكن..
" مثلما تبتدئ الفلسفة بالشكّ، كذلك تبتدئ الحياة الكريمة، تلك التي نصفها بالإنسانيّة، بالسّخرية ".