في المؤتمر رأيت الديكتاتور عاريا من كلّ شيء، من وجهه الزائف وشعره الأسود اللمّاع وادّعاءاته الكاذبة، رأيت فاشيته وفظاعة قهره للبشر وقدرته المتوحشة على سلخ الجِلد الإنساني و جَـلد كلّ القيم الإنسانية وإذابة كلّ طمـآنينة بحامض نرجسيته المريضة.
كان يكفي أن تنظر إلى وجوه الضحايا كي ترى في عيونهم الجرح الغائر والندب العميق الذي ينكأ كلّ مرّة.
في الخارح، وأمام الهيئة، كانت عبير موسي مع أتباعها تواصل السطو على كلّ شيء: على شعارات الثورة برفع عبارة: ديقاج في وجه الوافدين على مقرّ الهيئة من الضيوف، بارتداء الشاشية الحمراء شاشية فرحات حشّاد ومحمد على الحامي، وقد كان عليها ارتداء الطربوش التركي مادامت تدّعي البورقيبية، وتسطو أيضا على أحلام الضحايا في العيش الكريم بالمطالبة بأموال الضحايا التي كانت في جلّها هبات من منظّمات دولية. ولم تفلح سوى في التشويش البسيط بأغان ثورية تبثّها عبر مضخّمات الصوت، مسروقة أيضا.
وفي المؤتمر رأيت السلطة عارية من مشروع إنساني اجتماعي تشاركي. غيابها عن حضور المؤتمر كشف انحيازها الطبقي ضدّ الضحايا أفرادا وجماعات وجهات وتاريخا، وضدّ الهيئة المحاصرة من الجميع حتّى من أصدقائها.
كان صمود أعضاء الهيئة أسطوريا في وجه الغاضبين والمناورين والمتآمرين، وأذهلني الهدوء الذي استطاعوا به السيطرة على كلّ الجلسات وسعة البال الخرافية لكلّ الأعضاء الذين كانوا يتكلّمون بنبرة واحدة قد تعلو أحيانا عند احتدام النقاش ثم تعود لهدوئها. لقد قدّموا درسا في البيداغوجيا وفي كيفيّة التعامل الرصين مع أعقد المشاكل في المجتمع ومع أصعب الضحايا: ضحايا الاستبداد.
وفي المؤتمر رأيت الاخطبوط عاريا. الأخطبوط الذي ذهب رأسه وظلّت أصابعه تقبض على جسد المجتمع الواهن وتعصره عصرا. الإخطبوط المكوّن في جزء كبير منه من موظّفي الدولة الذين استفادوا بالمليارات ولم يقدّموا شيئا للوطن ولم يفكّروا بعد في إعادة الأموال، بل نجدهم اليوم يؤسّسون الأحزاب ويستولون على جزء من السلطة لحماية ثرواتهم المتراكمة، وأيضا من " إعلاميين " صنعتهم المنظومة القديمة وأغدقت عليهم الأموال ليغطّوا عراءها من القيم والأخلاق ونهبها لحقّ الناس في الحياة.
لقد كان نهب البلاد متوازيا مع القمع السياسي الذي كان يمارسه رأس الأخطبوط الذي فرّ وترك جسده حيّا وراءه يواصل سعيه إلى الاستحكام بمحاولة قتل كلّ عدالة يمكن أن تنسف ببقايا أطماعهم الجشعة وهو ما يفسّر غياب الاعتذار الذي طالبت به الهيئة، فقانون المصالحة منح الفاسدين حصانة جعلتهم أكثر استهانة بمسار العدالة الانتقالية.
ولكن، ومع انتهاء أعمال الهيئة، سيظلّ العمل الجبّار الذي قامت به أحد أسس التغيير في تونس، وستظلّ وصاياها منهلا لبناء تصوّراتنا المستقبلية التي تحتاج نظاما ديمقراطيا تشاركيا لتحقيقها أرجو أن يكون مع الانتخابات القادمة، وبناء مجتمع بقيم راسخة في الحرية والكرامة.
في السجلّ الذهبي الذي تشرّفت بالكتابة فيه، شكرت الهيئة كثيرا، فنحن وسط الفوضى المتعمّدة التي نعيش، لا نكاد نشكر أحدا. يخيفنا الشكر أكثر ممّا يخيفنا الاستنقاص والاستعداء الذي يفتح البلاد على المحرقة.
وشكرت الثورة: ثورة 17 ديسمبر.
ما أجمل الثورة!
ما أكبر الفكرة!