استاذي توفيق بكّار أذكره بابتسام حتّى وهو يرحل فقد كان دائما مبتسما وهو يدرّسنا. لقد كان ضدّ العبوس والتجهّم، هادئا، يزن الكلمة، يفكّر ثمّ يتكلّم. أذكر إلى الآن الشّرح الذّي كلّفني به وهو تطبيق المنهج النصّاني على نصّ من حدّث أبو هريرة قال لمحمود المسعدي. كنت أقرأ وكان يبتسم. وكان لطفه أخّاذا.
علّمنا بهدوء إلى حدّ أنّي لا أتصوّره يصرخ يوما. يضع ساقا على ساق أمام المكتب ويظلّ يفكّر برهة قبل النّطق بالكلمة. وكنّا صامتين ننتظر أيّة كلمة سيقول. ولكنّ مواقفه كانت صاخبة وأذكر غضبه يوم اختفى صديقه الأستاذ محمد صالح القرمادي وكنّا طلبة سنة أولى نرقب من بعيد الأمر قبل أن يكتشف موت صديقه العبثي وقد سقط في بئر أثناء تجوّله بإحدى المنتزهات الجبليّة. وكان حزينا. وكنّا حزانى لحزنه. وكانت الجامعة حزينة لقامة سامقة كالقرمادي.
مع توفيق بكّار تفتّحت أعيننا على المناهج الحديثة لكنّنا كنّا نعبّ أيضا من فيض الإنسانيّة والعطاء فيه. بعد ذلك كانت تجربة عيون المعاصرة وتقديمه المذهل للرّوايات العربيّة الذّي كان مرجعا آخر لنا في قراءة النّصوص الأدبيّة. نقرأ التّقديم مرّات ومرّات ولا نملّ.
تخلّق لدينا شغف بنصوصه النّقديّة ظلّ أثرها إلى يومنا هذا في تدريسنا للموروث الأدبي القديم كنصوص الجاحظ وكليلة ودمنة أو في تدريس الأدب الحديث كموسم الهجرة إلى الشّمال للطيّب صالح. توفيق بكّار لم يمت فهو يرافقنا بلطفه المعهود ونحن نحفر وراء المعنى. حين رأيته آخر مرّة أثناء تكريمه منذ سنتين في معرض الكتاب أسرعت إليه لأقبّله وأعرّفه بنفسي وأذكّره بأنّي درست عنده وأنّي بدأت معه مرحلتي الثّالثة قبل أن أنقطع بسبب الأولاد. كان ينظر إليّ بعينيه الزّرقاوين، بحر من المعرفة والإنسانيّة، ثمّ قال لي مبتسما وهو يحمل جسده الهزيل: المهم كبر الأولاد. ـ أجل وكبرت معهم..
كيف ترحل وتتركنا وحدنا دون جمال؟
سلاما لروحك أستاذي..