ما لم يفكّر فيه خطاب الشّاهد

Photo

لكلّ خطاب " ظهر وبطن « و " حدّ ومطلع " بلغة ابن عربي وقد يتجاوز " الظّهر " البطن " رغم أنّه مكتوم وغير مصرّح به ولكن تجلياته تبدو في ملامس الخطاب وترسّباته وطبقاته وثنايا طيّاته وفي إيقاعه ولهجته. والخطاب الذّي يبدي شجاعة وصراحة قد يخفي " خوفا ما " ومسايرة غير معلنة لقوى تدفعه إلى الكتمان والإخفاء.

يبدأ خطاب رئيس الحكومة بنوستالجيا تستعيد لحظة فرح جماعيّة بثورة أنجزها الشّباب وبرفع شعارات الثّورة: حريّة وعدالة وكرامة وطنيّة في شبه " تبنّ " غايته طمأنة متلقّ بعينه هو الشّباب ( رسالة من شاب إلى الشّباب ) الذي يشعر أنّ ثورته قد سرقت منه وأنّ الطّبقة السياسيّة برمّتها قد غدرت به فصار لامباليا يبحث عن حلول فرديّة للنّجاة بعيدا عن الانشغال بالهمّ الجماعي وبعيدا عن منطق: ناقفو لتونس الذّي ألهب به رئيس الحكومة أيدي المصفّقين الواقفين في آخر الكلمة بعد قعود طويل.

فيكفي الشّباب ما وقف تحت الجدران وأمام الأبواب المغلقة ينتظره نصيبه من الحياة بعد أن افتكّها منه الواقفون ليلا نهارا على مصالحهم وحساباتهم وأرصدتهم. خطاب النّوستالجيا الذّي يمثّل " مطلع " النصّ القوي يتهاوى أمام التغافل عن كون هذه الّلحظة التي يستعيدها بحنين رئيس الحكومة كانت لحظة ثورة على منظومة قديمة قال لها الشّباب المهمّش و " المحقور ": ارحل ولكنّها أصرّت على ألّا ترحل بل سعت بكلّ السبل المتاحة المشروعة وغير المشروعة على البقاء وها هي تكوّن جزءا هامّا من حكومته: حكومة الوحدة الوطنيّة. بل إنّ بعض المشاركين في الحكومة ساهموا أثناء تقلّدهم مناصب في المنظومة القديمة في امتهان الإنسان ووأد الحريّة. فهل لهم الآن من الجاهزيّة لتبنّي أهداف الثّورة ولبناء البديل؟ فجأة؟ هكذا؟ أليس هذا سرياليّا قليلا أو كثيرا؟

من المسكوت عنه في الخطاب أيضا تحميل الإدارة النوفمبريّة العميقة التي ظلّت تعيق أيّ عمل يسعى إلى التقدّم بالوطن بعد الثّورة في سعي إلى تشويه الثّورة وبيان أنّ ما لحق الوطن من تخريب إنّما هو جرّاء الثّورة. وقد عاضده إلى درجة ما إعلام كان في خدمة سلطة المال وقوى قدّمت مصالحها على الجميع ومثقفون نعتوها بثورة البرويطة (أودّ الآن معرفة موقفهم من " خطاب الثورة " لدى رئيس الحكومة). هذا الصّمت يعني أنّ " مصارحة الشّعب بالحقيقة «التي ألحّ عليها رئيس الحكومة ومجّدها كالعادة المحلّلون و " الخبراء " هي مصارحة جزئيّة وناقصة. أرادها أن تكون فضفاضة إرضاء للجميع فكان نصيب المواطن البسيط من التقريع هو الأوفر حظّا. هي شظيّة واحدة من مرآة الحقيقة بلغة جلال الدّين الرّومي. بقيّة الشّظايا جارجة وجارحة جدّا وقد تسيل دما.

الخطاب يدّعي صراحة فيصرخ: من المسؤول؟ لتكون الإجابة توزيعا للدّم بين القبائل: كلّنا مسؤولون.. ثمّ يأتي المثال شاهدا على عجز عن توجيه أصابع الاتّهام للمسؤول الحقيقي فينصرف مباشرة إلى تحميل المسؤولية إلى المواطن: " التونسي بعد الثّورة ماخدمش كيف ما يلزم " (أشهد أني لم أعمل في حياتي كما عملت بعد الثورة) .. الخمس سنوات الأخيرة عشنا أزمة قيم (عفوا أزمة القيم أليست سابقة للثّورة؟ إذن ماذا نسمي سرقة العائلة المالكة للمليارات والسّطو على المال العام وتعذيب البشر والمتاجرة بكلّ شيء؟؟ ألا يستبطن رئيس الحكومة الذي بدأ خطابة برفع شعارات الثّورة الخطاب المضاد للثورة الذي يدّعي أنّ ما قبل الثورة هو الجنّة؟؟) يقول أيضا: الفضلات إلي نراوها في الشارع ما هيش البلديّة إلي ألقاتها في الشارع.. ثمة مواطن ألقاها في الشّارع.. ". وكأنّ البلديّات الحالية تقوم بواجبها كاملا وكأنّ العفن لا يسكن مقرّات البلديات حيث البيروقراطية والمحسوبية و" التكمبين " وكأنّنا لسنا بحاجة إلى انتخابات بلديّة مستعجلة تعيد بناء السّلط المحليّة بطريقة تجعل المواطن مسؤولا عن منطقته متحمّسا لنظافتها والاعتناء بها كأحسن ما يكون. الحلّ هو في تشريك المواطن في الحكم عبر المجالس المحليّة. غير المنطوق في النصّ أو اللّامفكر فيه عمدا هو تجاهل هذا الأمر. عمدا لأنّ هناك أحزاب غير جاهزة للانتخابات البلديّة. وهذا بيت القصيد.

لذلك فعبارة: " أصارح الشّعب بالحقيقة" كما وردت في الخطاب هي من قبيل التّغطية نسبيا عن الحقيقة. ذلك أنّ الحقيقة التي تمّ حجبها طوال الخمس سنوات هي حقيقة قاتلة. ويكفي التّصريح بها كاملة دون حجب حتّى ينفرط عقد " الوحدة الوطنيّة " التي يجمع حبّاتها خيط عنكبوت واهن يمكن أن ينقطع في كلّ آونه. الحقائق المنطوق بها في الخطاب هي حقائق مشاعة بين الناس يعلمها القاصي والدّاني. أين الجديد ما دام رئيس حكومتنا الشاب لم يصرخ: واجبنا مواجهة أباطرة الفساد وبارونات التهريب، بنفس الحزم الذي توعّد المواطن الذي يلقي الفضلات؟ أين الجديد مادام لم يقل ما يقوله المواطنون: واجبنا مواجهة الفساد في أجهزة الدّولة أوّلا: أجهزة الأمن والدّيوانة والإدارة في معناها الواسع والتي تحوّلت إلى بؤر للمحسوبيّة والفساد؟ (وهو ما ذكره صندوق النقد الدولي نفسه في تقريره عن تونس )؟ أين الجديد مادام رئيس حكومتنا لم يصرخ: واجبنا أوّلا توفير الحدّ الأدنى للإنسان هنا كي يعمل وينتج ويبدع: الصحّة والتّعليم وهما قطاعان يعانيان خللا كبيرا ولكن لا أولويّة لهما الآن فالدّولة لا قدرة لها على حماية التّعليم العمومي ولا الصحّة العمومية. ولكن أليس هذا ما فعلته البلدان التي خرجت من الدّرجة الصّفر للحياة حيث منحت الصحّة والتّعليم الأولويّة؟؟ كيف سيبنى الإنسان الذّي سيعمل وينتج و " ياقف لتونس"؟

للنصّ إيقاعه الذّي راوح بين الصّعود والهبوط. فكان يصعّد واعدا متوعّدا كلّما تعلّق الأمر بالمواطن المجترئ عليه دائما ومن الجميع وينحدر هابطا هادئا محتشما كلّما تعلّق الأمر بمقاومة الفساد لدى لوبيات الفساد الذّي لا ندري كيف ومتى ستكون مقاومته ( ما ذكر عن هيئة مكافحة الفساد غير مقنع لكن لنحسن الظن) أو بمقاومة المهرّبين والمتهرّبين من الضّرائب أيضا ( لا ندري أيضا كيف ومتى؟ نخشى أن تضيع المقاومة في التفاصيل وبيروقراطية الهيئات) هنا يصبح الإيقاع هادئا والكلام فضفاضا غير دقيق ليعود مخاطبا " الفئات المتقاعسة والمعطّلة للعمل " بكلّ حزم مؤكّدا على ثقافة العمل غافلا عن شروطه التي لا يمكن أن تتأسّس دون توفّرها وأهمّ شروطه فضلا عن توفير الفضاءات اللّائقة بالإنسان وكرامته وضمان الحدّ الأدنى من عدم استغلال الإنسان تحقيق العدل في توزيع حقّ العمل. العدل ثمّ العدل ثمّ العدل..

السيّد الشّاهد الشاب لم يستطع أن يصارح قبائل السّياسة وقوى المال والمصالح والقادمون من قديم يصرّ بصفاقة على أن يعيد إنتاج ذاته فانبرى يلوم شعبا قادرا على صنع المعجزات لو لم يظلّ اللّصوص يحاصرون خبزه وعقله وعاطفته حتّى الإعياء. إنّه الآن شعب منهك مستنزف ولن يقدر على التقشّف الذي اختارته الحكومة حلّا إلّا إذا وجد الطّبقة التي استنزفته حتّى الإعياء قد قلّصت من درجة جشعها وتهافتها وبادرت بهذا التقشف فاستغنت عن بعض مظاهر الرفاهية والامتيازات التي تتمتّع بها فتقدّم درس التّضحية الأوّل.

ماذا لو طلب السيّد الشّاهد بكلّ حزم من النّخبة السياسيّة التي يخاطبها تقديم الدّرس الأوّل للتّضحية؟ ماذا لو طلب من قوى المال أن تقدّم الدّرس الأوّل للتّضحية؟ ماذا لو طلب من وزرائه تقديم الدّرس الأوّل للتّضحية؟ سننتظر حدوث ذلك. لنكن متفائلين.. قليلا..

ويظلّ البطن أكثر من الظّهر.. والمسكوت عنه يطغى على المنطوق به. خيانة الثّورة وغدرها من الدّاخل ومكافأة الغادرين شراء لصمتهم واتّقاء لشرّهم. هل البعض صاروا وزراء لاتّقاء شرّهم وشرّ من وراءهم؟ " إنّ بعض الظنّ إثم " وبعد.. إجراءات التقشّف تقتضي شعورا عميقا بالانتماء للوطن. عشقا كبيرا. فهل من تطلب منهم التقشّف يشعرون بالانتماء وبالعشق وهم يعاينون غياب المحاسبة لمن قتل وسرق وخرّب؟ هل حكومة الوحدة الوطنيّة غير معنيّة بالمحاسبة؟ هل دخلت كلمات مثل: المنظومة القديمة، المحاسبة، محاكمة القتلة، التوزيع العادل للثروة، استرجاع الأموال المنهوبة… طيّ النسيان؟؟

هذا هو خطاب السيد الشاهدّ ظهر وبطن. ظهر أعطى ظهره فيه للمواطن ومدّ يده للأحزاب فإذا هو يصارح ولا يصارح، يشجع ولا يشجع، يجرؤ ولا يجرؤ. وبطن يخفي كثيرا من العجز أمام من يحرّكون بخيوطهم المشهد ويصنعون الخوف ويحبطون العزم.

أسفة: حاولت.. لكنّ ما تقوله لا يمسّني في العمق..
للاعتبارات التي تعرفها جيّدا ( من رسالة لجاك دريدا)

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات