بعد زمن " التّماوت " وهو زمن إظهار الموت بالتوقّف عن الحركة زمنا وتخشّب الجسم والتصلّب على طريقة بعض الحيوانات في التماوت عند استشعار الخطر شأن عنكبوت الشباك الحاضنة وخنسفاء سيلفيد والخنفساء الزرقاء والثعلب وسمكة سكليد والأبسوم وسمك القرش..
بعد ذلك الزمان الذي صار فيه الحديث عن " النظام المقبور " شائعا ومسلّما به، هذا الآن زمان الانقضاض بعد زوال الخطر والشعور بالاطمئنان وبعد أن صارت مهادنة النظام القديم والبحث عن رضاه مطمح الكثير من الأحزاب في السلطة وفي المعارضة أيضا التي تجاهلت العنكبوت أو الثعلب المتماوت لتنشغل بالحمائم.
ولعلّ الطّريف في حكاية العنكبوت المتماوت أنّه ككلّ العناكب يخشى الموت على يد الأنثى فيسرع إلى تقديم هديّة لها هي حشرة ملفوفة بشباكه. فإن التهمتها الأنثى نجا. وإلّا فإنّه يسارع إلى افتعال الموت خوفا من انقضاض الأنثى عليه.
وكم قدّم هذا " المتماوت المافيوزي " من هديّة لينجو. وكم عاد إلى افتعال الموت قبل أن يتعنكب ثانية ( يستأسد ) ويبسط شباكه ويغوي الكثير فيقعون الواحد تلو الآخر في حبائله الرهيفة والخانقة. أوقع الكثير.
وحتّى الحمائم أدركت أنّ الشبكة متّسعة وشاسعة مقيمة في خرائب الوطن وزواياه وأركانه وأنّ شبكة المصالح القائمة أمتن من أن تنقطع أوصالها فهادنت وهي المحمولة على السّلم والسّلام حتّى الاستسلام.
واليوم وبمناسبة الانتخابات البلديّة وبفضل ديمقراطيّة " التوافق " التي أتاحت للجميع حتّى بعض المسؤولين في النّظام السّابق ( رؤساء شعب ورؤساء بلديات سابقين ومسؤولين سابقين في إدارات.. ) ممّن برهنوا على أن لا همّ لهم سوى البحث عن الامتيازات والمواقع من تقديم ترشّحاتهم، نتبيّن أنّ الجسم الذي ظلّ زمنا " متماوتا " هو جسم بأرواح سبعة.
فسبعة سنوات مرّت على ثورة انقضّت عليه ولكنّه بفضل مراوغاته استطاع أن يضمن بقاءة حتّى الآن وأن يقدّم إلى الواجهة الصّفوف الخلفيّة منه ويقتحم من خلالها المنظّمات والجمعيّات والنقابات فضلا عن الإعلام الذي ظلّ منذ اليوم الأوّل للثّورة تحت سيطرته في جزء كبير منه وأيضا الإدارة التي ظلّت تحت حكمه تعشّش فيها خيوط العنكبوت المانعة للتّجديد والإصلاح وفتح النوافذ لاستنشاق الهواء الجديد.
حرص هذا الجسم الزّئبقي الانتهازي على أن يخوض أفراده الانتخابات البلدية في قائمات تجمعية أو مبثوثين داخل قائمات أخرى يدلّ على أنّهم لم يدركوا بعد أنّ التاريخ لا يعود إلّا في شكل مهزلة وأنّ من لا يقرأون التاريخ محكوم عليهم بأن يعيدوه ألف مرّة قبل يلدغوا من الجحر ذاته.
فماذا يمكن أن يضيف انتهازيّ فاقد للمشروع والرّؤية ومحكوم بنفس العقليّة النفعيّة والمصلحيّة الضيّقة التي تجعله يسعى إلى ضمان امتيازاته قبل كلّ شيء إلى العمل البلدي؟
الأبناء الانتهازيون للنظام القديم والكثير منهم نفذ إلى " النظام الجديد " مستعدّون لأن يخوضوا أشرس المعارك وبنفس الطّرق والأساليب فقط لاستعادة " تاريخهم المجيد ".
تاريخ ماتزال تشهد عليه الملفّات المفتوحة والمغلقة والمحروقة والمتلفة. إنّها الذاكرة التي اشتغلوا على تعطيبها للعودة في أشكال جديدة وتحت مسمّيات جديدة من بينها الخوف على تونس التي أصابتها الفوضى بعد أن رفعوا قليلا أيديهم عنها.
وتاريخ ماتزال تشهد عليه الحفر في الطّرقات وفوضى البناءات وغياب الجمال والنظافة في الشوارع وغياب الثقافة في الفضاءات مقابل تقاسم الامتيازات.
ومن المسمّيات التي اشتغلوا في ظلّها كثيرا وتمدّدوا بسببها هي استمرارية الدولة. فاستمرارية الدولة لديهم هي استمرار بقائهم الذي يحاولون لم شتاته واستجماع ذاته والنفخ في روحه وبعث رفاته. استمراريتها في استمراريتهم أو هي الفوضى.
واستمرارية الدولة هو بقاؤهم في كلّ مفاصلها ومواقعها والإمساك بالإدارة وبالمؤسّسات الكبرى واستعادة النفوذ على المنظّمات وأيضا على البلديّات. وذلك بغلق الملفّات والتواطئ بالصّمت على كلّ ما فات وما هو آت.
ما هو مؤكّد أنّ من لم ينجح في السابق في بناء مدينة يطيب فيها العيش لن ينجح لاحقا. فلا يجب أن يلدغ المواطن من جحر مرّتين. وإن لدغ فعليه آنذاك أن يفكّر: ما الذي يجعله يرفض اختيار كفاءة جديدة بعيدة عن وحل الماضي؟ ووحل الحاضر أيضا؟ أليس غريبا أن يظلّ في علاقة تبعيّة نفسيّة لمن لا يملك سوى الوهم؟ ولا يبيع سوى الخيبة؟
من المؤكّد أنّ " العنكبوت " الذي أوشك أن تأكله أنثى " الثورة " سيظلّ يلقي بهدايا كثيرة: حشرات ملفوفة كي يوقع الكثير في حبائله. فمن يكون فاقدا للرؤية والمشروع الحقيقي سيظلّ يعيد نفس الممارسات آليا، وسيستغبي جمهور الفئات المهمّشة خاصّة التي يمكن أن يوقعها الطمع ثانية في نفس الخطأ، وسيعمل على استغلال حالة " الخيبة العامة " والقرف من السياسة وشكوى الأسعار ليخلق الحنين إلى الوهم.
إنّه الجانب الخفي في حكاية الانتخابات التي صار الحديث فيها عن يهوديّ في قائمة انتخابية أكثر أهمّية من هذا الزحف لقائمات " المقبور " الذّي أثبت أنّه القابر لأحلام كثيرة بعد أن تسلّل بصمت في ليل الفوضى والعداوات والمطامع والانتهازية السياسيّة التي يشترك فيها مع بعض معارضيه أو الكثير منهم ليدفن آمالا كبيرة.
لكن قد يفوت هذه الجماعة أنّ الزمان ليس مطلقا في صالحهم، وأنّهم سيرغمون تدريجيّا على الخروج من المشهد بعد أقلّ من عقدين سيفقدون فيها صفوفهم الأمامية والخلفية ويتقلّص فيها حضورهم بوجود أجيال جديدة تتربّى في مناخ آخر وواقع آخر. إنّها أجيال نرى ملامحها ونجدها بعيدة عن ثقافة أنتجها حزب كان تجمّعا لمصالح ضيقة.
الزّمان سيكون فقط في صالح من يتجرّد من أنانيته وجشعه وانتهازيّته وضيق أفقه وتعصّبه الحزبي والإيديولوجي ليرسم الأفق الأجمل للوطن.. مهما طال الليل..