أبناؤنا الفارّون..

Photo

مبروك لفرنسا لألمانيا لكندا لأمريكا...

مبروك ها أننا نستعد لإرسال لكم نوابغ من خيرة بذورنا ....

نوابغ من رحم الخضراء بسواعد أبنائها …

نوابغ سقيناها من اعصابنا و عقولنا واينعت بين ايدينا لتنعموا بها عند نضجها. …

هنيئا لكم. ...وهنيئا لنا الوهم و السذاجة الخلاقة..

هذا التّعليق على نتائج الباكالوريا تداوله الكثير في تعبير عن مرارة إزاء وطن يلفظ كلّ سنة أفضل ما عنده ويلقي بهم خارجه وتسرع بلدان الضفّة الشّمالية لاحتضانهم وتأطيرهم ثمّ تشغيلهم لديها. مرارة زاد في تعميقها تصريحات المتفوّقين أنفسهم برغبتهم في مغادرة الوطن والدّراسة خارجه في وعي منهم بقدراتهم المميّزة التي يخشون عليها من التعطّب هنا داخل فضاءات جامعيّة لا يؤمنون بنجاعتها ولا بقدرتها على تحقيق الطّموح العلميّ والمعرفيّ الذّي يتوقون إليه ويعلمون جيّدا مراتبها عالميّا في سلّم الترتيب الجامعي.

حلم الدّراسة بالخارج هاجس حقيقيّ لدى المتفوّقين الذّين يعون أنّ الوطن لن يوفّر لهم الفضاءات العلميّة الملائمة للدّراسة والتألّق فحسب بل قد يقضي على طموحهم في شغل مناسب وحياة لائقة بعد سنوات التّعب والاجتهاد في ظلّ دولة غير عادلة لا تحكمها الكفاءة العلميّة بقدر ما يهيمن عليها الفساد بأنواعه من محسوبيّة وجهويّات وعائلات متنفّذة ولوبيّات متغلغلة ومصالح متشابكة.

لذلك فإنّ أغلب هؤلاء المتفوّقين لا يعودون إلى الوطن. إنّهم يفضّلون البقاء هناك على العودة إلى دولة لن تنصفهم ولن تقدّر قيمتهم العلميّة ولا مكانتهم. وإن عادوا فسيجدون أنفسهم يكابدون غربة نفسيّة داخل وطن منشغل عن كفاءاته بصراعاته وخلافاته وشقوقه وتصدّعاته وسيصطدمون بغياب رؤية جديّة للنّهوض بالوطن وغياب المشروع الوطني بل قد يصدمون بتعيير البعض لهم بأنّهم " أبناء فرنسا وألمانيا و.." فيفرّون إلى أوطان أخرى ويصبح شعارهم: وطني هو ما يوفّر لي شغلا وكرامة..

هو وطن يفرّ منه أبناؤه فمن الذّي خان الآخر؟ هل الوطن خان أبناءه أم خان الوطن أبناؤه؟ وهل يمكن أن نحاسب شبابا مميّزا على حقّه في نيل المعرفة والمكانة التي يريد ما لم يجدها في وطنه؟

فضلا عن هذا، فإنّ موسم الهجرة إلى الشّمال هو هاجس غير المتفوّقين أيضا ممّن لم يتمكّنوا من تحقيق معدّلات كبرى فتلجأ عائلاتهم إلى الاستثمار فيهم بتمويل دراستهم بالخارج على حسابها تماما كما استثمرت في دراستهم لسنوات طويلة عبر الدّروس الخصوصيّة وهنا يصبح المال شرطا وحيدا لهذه الهجرة من أجل اقتحام المدارس والجامعات الغربيّة التي لا تتردّد في قبول هؤلاء الطّلبة مادامت تستجيب لشروط الدّفع أوّلا.

الفارون بالعقل والذّكاء والفارون بالمال ولكن هناك الفارون داخل الوطن أيضا. إنّهم المنتحرون و " الحارقون " والمنقطعون والمنسيون الذّين لا هاجس لهم سوى البحث عن موطئ قدم في الضفّة الأخرى. سواء كانت ضفّة الموت أو ضفّة المتوسّط الشّمالية. هؤلاء في أغلبهم ضحايا التّمييز الجهوي وغياب العدالة الاجتماعيّة والبؤس المادي الذي ينتج حتما اليوم بالذّات في زمن تراجع التعليم العمومي وتحكّم المال بؤسا فكريّا ونفسيّا نجد تجلّياته في الفوارق في النتائج بين الجهات.

لم يعد التّلميذ الحافي الذي يقطع الكيلومترات ويقطع جسور الحطب ليصل إلى المدرسة قادرا كما كان من قبل على التعلّم والنّجاح والتفوّق والتّموقع في أعلى المواقع. لقد أكله ذئب المال وتوحّش العالم المعولم ومحقته الطبقيّة المجحفة إلّا من رحم ربّي وسبقه أشواطا من يتمّ دعمه ماديّا ونفسيّا ليحصل على النتائج المرجوّة، فكان له النّصيب الأدنى في ظلّ عدم تساوي الفرص وسيق إلى قدر محتوم: أن يظلّ في الدرجة الصفر من الحياة على أرض لم يعد يجد فيها ما يستحقّ الحياة.

هي الطبقيّة التي تنتج البؤس واليأس وتقتل الذّكاء والرّوح. وما انتحار أحد الشّباب البارحة في معتمدية الرقاب من ولاية سيدي بوزيد إثر إخفاقه في الحصول على الباكالوريا إلّا دليل على بعض مآسي التّعليم لدينا.

أبناؤنا الفارّون يريدون لا ريب العودة ولكنّهم يريدون وطنا غير الوطن الآن. يريدون وطنا آخر تتحقّق فيه أحلامهم الكبرى التي تسرق يوميّا وسط جشع وأنانيّة المتحكّمين والمتنفّذين.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات