الذاكرة هي الهوية وهي العزّة..

Photo

بإمكانك أن تذهب إلى فرنسا كما تذهب إلى أيّ دولة في العالم. بإمكانك أن تحبّ باريس. أن تعشق نهر السّان. أن تعجب بالفرنسيّات المسنّات المبتسمات دوما واللاتي يبادرنك بالتحيّة. بإمكانك أن تزور فولتير وروسو في قبريهما. أن تبوح لهما بهموم العالم. بإمكانك أن تزور الحيّ اللّاتيني وتتذكّر توفيق الحكيم وسهيل ادريس. أن تذهب إلى المسرح وتشاهد مسرحيّة في نقد البرجوازية الفرنسية في القرن التاسع عشرة.

بإمكانك أن تقف أمام الأوبيرا. أن ترفع عاليا كتابك الذي يتضمّن نقدا لموقف فرنسا من الثورة التونسيّة. أن ينظر إليك شرطيّ مسلّح حذرا ثمّ يبتسم لك فتردّ على ابتسامته بابتسامة. بإمكانك ألّا تخاف من العقاب هناك على ما كتبت ففرنسا تريد دائما أن تبرهن للعالم أنّها أمّ الحريّات ومنبعها. وأنّها ابنة فلاسفة الأتوار.

بإمكانك أن تفسّر لأيّ فرنسي سبب نقدك. أن تقول له إنّ فرنسا دعمت نظام بن علي إلى آخر رمق. سيفهمك. بإمكانك أن تحدّثه عن ثورتك. هذا الحدث الجميل الذي لا يخضع لأيّ قالب حتّى قالب الثورة الفرنسية. أن تقول له إنّ الدّيمقراطيّة التونسيّة ليست نتيجة رغبة فرنسا بل نتيجة إرادة شعب قدّم ثلاثمائة شهيد. بإمكانك أن تفخر وأنت تقول هذا. أن تتحرّر من عقدة المستعمر " بفتح الميم ". أن تخرج مصطفى سعيد الذي فيك وتلقي به في نهر السان.

فلا أنت غاز ولا مغزوّ. أنت ندّ ولك أن تشعره أنّك تعيش بدء لحظة جديدة. لحظة عسيرة لكنّها قد تكون يوما ما إضافة جديدة للعالم. رغم كلّ العثرات والخيبات. بإمكانك أن تقول له إنّ فرنسا تتدخّل في شؤوننا وفي تعليمنا وفي ثقافتنا وأنّها تريد فرض لغتها وثقافتها في خضمّ عشرات اللغات المهيمنة في العالم اليوم.

سيفهمك. بإمكانك أن تقول إنّ لنا لغتنا وثقافتنا وقيمنا ونحن نعتزّ بها كما تعتزّون بلغتكم. ولنا ديننا ولكم دينكم. ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وأنّ جوهر الدين الحريّة والعدل. بإمكانك أن تؤكّد له أنّنا نراكم كلّ الثّقافات ومن بينها الفرنسيّة ونذيبها فينا لنوجد حداثتنا غير المستوردة. وستوجد يوما ما. أنّنا ورثنا الإيمان بالعقل وشغف المعرفة من أسلافنا ومنكم ولكنّنا سنبني حاضرنا دون اتّكاء على أحد غير أنفسنا.

تذكّره بأنّ المركزيّة الغربيّة حجبت روعة التّأثير المتبادل بين العربيّة والفرنسيّة في الأدب. وبين العربية ولغات أخرى. سيفهمك. حتما سيفهمك. أن تذكّره بتأثير أبي العلاء من خلال رسالة الغفران في الكوميديا الإلهية لدانتي. تأثير القرآن في نصوص شعريّة غربية كثيرة. في اللغة الفرنسية ذاتها. قوّة تأثير الفرنسية في طه حسين الذي ظلّ أصيلا رغم كلّ شيء.

بإمكانك أن تقول له إنّ الفرنسيّة جميلة لكنّك قد تحبّ أكثر الموسيقى في الإيطاليّة والقوّة في الألمانيّة والعنف في الروسيّة والشّاعرية في الإسبانيّة وصوت الأواني في الصّينيّة . وأنّك وسط كلّ لغات العالم لا تنسى جماليّة العربيّة. تذكّره أنّ المركزيّة حجبت أشياء كثيرة. من بينها ما نملك من ثروات هائلة. ومن بينها الإنسان هنا.

بإمكانك أن تقنعه بأنّنا نحترم أنفسنا ولا نرى النّقص فيها وأنّ النفوس الكبيرة لا ترضى الذلّة ونحن نفوس كبيرة. سيفهك وسيحترمك.

بإمكانك هناك أشياء كثيرة..

وسيفهمك

ولكن ليس بإمكانك ان تصرخ: " تحيا فرنسا ".. حتّى وأنت تأكل ألذّ المأكولات الفرنسيّة.

ويفهمك

ليس بإمكانك أن تصرخ كما صرخ بها " تونسيون " هنا يستجدون رضا فرنسا ويتوسّلون صدقة.


• سيرى الشّرخ الذي بداخلك

• سيرى ثقوب الذاكرة.

• سيرى الذلّة

• سيرى النسيان ولن يفهم لم تصرخ هكذا؟


هل خذلتك حكومتك؟ هل حوّلتك إلى متسوّل عالمي؟ لن يفهم لم تنسى كلّ التاريخ القديم والحديث. تنسى الذّاكرة التي تختزن روعة لحظات المقاومة ضدّ المستعمر. تنسى ذاتك الثقافية.

سيحتقرك.

الذاكرة هي الهوية وهي العزّة..

نحن نتجاوز ونتفاعل ونتجادل ولا ننسى !!!

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات