هو الشّعار الذّي رفعه الاتّحاد العام التّونسي للشّغل في ذكرى " الرشّ " بسليانة.. ذكرى أليمة تركت أثرا عميقا في نفوس التّونسيين..
فقدان شباب للبصر .. تشوّهات في الوجه والجسم باستعمال وسيلة الرشّ البشعة التي لا تليق بالإنسان.. وألم كبير دفع بأهالي سليانة للخروج من ديارهم في مسيرة من أضخم المسيرات في بلادنا..
لم ينس الأهالي.. ولم يستطع الاتّحاد أن ينسى ولا أن يغفر.. كما يقول الشّعار الذّي رفع يوم إحياء ذكرى الرشّ.. شعار ينطوي على غضب ووتوعّد دلّت عليهما: لن المتوعّدة المرتعدة غضبا.. وأيّ توعّد؟
لن ننسى .. لذلك كان الاحتفال بالذّكرى شحذا للذّاكرة وإلهابا للمخيال التّونسيّ الذّي بدأت هذه الأحداث تتوارى من مخيّلته بعد أن تتالت أحداث أشدّ على نفس التّونسيّ. فما الذّي جعل الاتّحاد يحفر في الذّاكرة وهو الذّي ساهم في وأد أحداث أهمّ في الذّاكرة؟
الاتّحاد الذّي يسير في سياق التّوافق ويدعم المصالحة ويدفع بمحاسبة الفاسدين إلى طيّ النّسيان ويطوي صفحة التّجاوزات التي أنهكت البلاد ويغضّ الطّرف عن محاسبة من نهبوا البلد وهمّشوا ولايات الدّاخل وفقّروا الملايين ويغمض عينيه عن قتلة الشّهداء وينسي أن يدافع عن المنسيين في الجهات مقابل الوقوف إلى صفّ بعض الأطياف المهنيّة ذات المصالح الضيّقة كالأطبّاء، هذا الاتّحاد نسي الكثير. لكنّه لم ينس أحداث الرشّ؟ فكيف تكون الذّاكرة مجزّأة؟ وكيف يكون النّسيان عطب العقل عن الرّؤية الشّاملة؟
لن نغفر.. توعّد بالقصاص.. فكيف يكون القصاص وممّن؟ ولم غفر الاتّحاد لمن قتلوا وسرقوا وأجرموا في حقّ الوطن ولم يغفر لأولئك ؟ إن كان قد غفر للّصوص الذّين خرّبوا البلد فلم لا يريد أن يغفر للّذين ارتكبوا الرشّ؟
الشّعار الذّي يخفي جهة سياسيّة تتبنّاه وتتوعّد من خلاله وتتهيّأ للسّلطة عبر التّوظيف الماكر للألم شعار مليء بالألغام.. الألغام التّي زرعت خلال السّنوات الخمس عبر شعارات مخاتلة وكلمات حقّ أريد بها باطل والتي ساهم الإعلام عبر محاولة نسف الذّاكرة وملئها بالثّقوب إلى زرعها..
الذّاكرة لا تجزّأ. أن لا تنسى يعني ألّا تنسى أيضا من يفترض أن تدافع عنهم لا أن تنظر بنصف عين وتفكّر بنصف عقل ويكون لك نصف موقف. أن لا تنسى ولا تغفر يعني أن تسير في ظريق المحاسبة من البداية فلا تميّز بين شهيد وشهيد وبين جريح وجريح وبين مصاب ومصاب وفق ميولاتك وأهوائك وأهواء من يسيّرك ووفق القوى التّي تتحرّك داخلك وتهيمن على المشهد وتعمل على الدّفع في اتّجاه واحد.
أن لا تغفر يعني ألّا تطالب بتعويضات لضحايا الرشّ وتغمض عينيك عن التّعويض لسجناء الرّأي ولضحايا الاستبداد مهما كانت انتماءاتهم وتوجّهاتهم..
أن لا تغفر يعني ألّا تغفر لكلّ من أذنب في حقّ هذا الوطن فلا تصالح وتهادن هذا وتحاسب وتعاقب ذاك.
أن يظلّ الاتّحاد أسير " طوائف " داخله تحرّكه وتوجّهه وفق عداواتها وتوافقاتها فهذا يعني أنّلا يزال يلعب نفس اللّعبة القديمة. لعبة قطع الطّريق التي مارسها واقعا وتكتيكا.. واقعا عبر آلاف الاعتصامات والإضرابات التي عطّلت الحركة وعطّبت الاقتصاد بعد الثّورة وتكتيكا عبر مسادة مرشّح وقطع الطّريق على مرشّح وعبر السّير في نهج التّوافقات ظاهرا وإشعال النّار ضدّ " الأعداء " متى يتوجّب الأمر باطنا..
اتّحاد العمّال يجب أن يظلّ اتّحاد العمّال فلا يخدم أجندات أحزاب سياسيّة تدفعه إلى شحن بعض المناطق والولايات لتكون خزّانا انتخابيّا لمعارك سياسيّة قادمة على السّلطة..
لن ننسى.. لن نغفر.. هي شحن سياسيّ جليّ وواضح وتوظيف سياسيّ للألم الذّي يقتلع من الذّاكرة في متاجرة به من أجل تهيئة التّربة للمعارك القادمة.
ماذا لو رفع الاتّحاد شعار: لن ننسى.. لن نغفر.. في وجه من امتصّوا ويمتصّون دم العمّال والعاملات كلّ يوم؟ ماذا لو رفع شعار: لن ننسى .. لن نغفر.. في وجه قوى المال والنّفوذ ولوبيّات الطّوائف المهنيّة التّي تزداد ثراء ونفوذا على حساب الملايين من المفقّرين الذّين تموت نساؤهم الحوامل وينتحر أبناؤهم وتعطش عجائزهم وهنّ يحملن على رؤوسهنّ وأظهرهنّ أوعية المال الثّقيلة؟
هي المعارك الحقيقيّة التي لا يقودها الحقد والحسابات الضيّقة التي تصدر عن نفوس صغيرة بل يقودها الحلم بعدالة اجتماعيّة للجميع.. للتّونسي مهما كان..الحلم بحياة كريمة لا يكون فيها الإنسان كائنا مستلب الحريّة مهدور الكرامة..
أقصر السّبل هي التي تعتمد أساليب غريزيّة ماكرة: المتاجرة بالألم وزرع الخوف.
أساليب قد تفضي إلى نتائج عاجلة لكنّها لا تؤدّي إلّا إلى الخراب ونسيان الأهداف الحقيقيّة التّي من أجلها انتفض التّونسيون..
ولن ينسى.. ولن يغفر التّونسيون لكلّ من قضى على أحلامهم الكبرى بنفوسهم الصّغيرة..