التونسي ونهاية الاستعمار / الاستحمار

Photo

بين الاستعمار والاستحمار حرف واحد. تقلب العين حاء فيصبح الاستعمار استحمارا. لا غير.

ويبدو أنّ الاستعمار مانفكّ يمارس سياسة " الاستحمار " منذ أن ذاق طعم النّفط والملح الرخيص فسنّ ما يلزم من التشريعات لاستغلال الثروات الباطنية التونسية وكوّن شركات منحته حقّ استغلال الحقول النفطيّة والمقاطع في إطار عقود استغلال أو رخص التفتيش. حدث ذلك في صمت وبتواطئ من " الزعيم ".

لقد تمّ كلّ شيء في إطار " الاستحمار" التام للتّونسي الذي كان في ذلك الوقت واقعا تحت سطوة " سيّد الأسياد ومحرّر البلاد " و" حبيب تونس العزيز علينا من كيد الأعداء برايتو يحمينا ".

لعلّه آن الأوان أن نفهم من الأعداء الذين كان يحمينا منهم؟ ومن الذي كان يكيد؟ هو أم هم أم هو وهم معا؟ هو " الهمّ التونسي " الذي آن الأوان أن نهمّ به ونهتمّ بتفكيكه والنفاذ من شقوق التاريخ وأثلامه وثغراته إلى بعض دواعيه لنستطيع التحرّر منه بعد أن جثم طويلا على نفوسنا.

كان هناك مخيال جماعيّ يتشكّل، أساسه بناء أساطير حول شخصيّة " الزعيم " الذّي سيحوّل غبار الـأفراد إلى شعب عظيم أو " أمّة عظيمة " تماما كما تفعل الآلهة في الأساطير القديمة. وكانت هناك تمثّلات تصاغ لتجعل منه ندّا لزعماء كبار في العالم محرّرين لشعوبهم من سطوة الاستعمار مثل أتاتورك وسوكارنو وتيتو وشارل دي غول ( بعضهم توفّي مثله تحت الإقامة الجبرية، سوكارنو مثالا ).

وكانت وظيفة مؤرّخي السلطة المساهمة في صياغة هذه " الأسطورة " بدافع ممّا سمّاه ابن خلدون في مقدّمته في حديثه عن دواعي الكذب في التاريخ بالولاء للسّلطان فيقول في تعليل دواعي هذا الكذب: " ومنها تقرّب الناس في الأكثر لأصحاب التجِلّة والمراتب بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك، فتستفيض الأخبار بها على غير حقيقة، فالنفوس مولعة بحب الثناء، والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة، وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل ولا متنافسين في أهلها ".

كان " الاستحمار " هنا في نسبة منه يتمّ بيد المؤرّخين الذّين تشيّعوا للزعيم طمعا وولاء فحادوا عن الصّدق وخدموا بذلك الاستعمار الذي وجد في أطروحات المؤرّخين السرديّة التي ينشدها لدوام بقائه وإبقاء قبضته. كان " المؤرّخ " الرسمي يدوّن ما يقوله الزعيم فغاب تاريخ كامل من الانتهاكات أهمّها انتهاكات الثّروات التي مثّلت المسكوت عنه المغيّب في الخطابات والكتب الرسميّة الحاضر فحسب في الشّعارات الطلّابيّة.

لا ريب أنّ العطب الحضاري الذي نعيش منذ ستين سنة تقريبا ليس قدرا. بل هو قرار لا يتعلّق بتونس فحسب بل بإفريقيا التي كان يجب أن تظلّ حتّى بعد خروج الاستعمار المباشر تحت سطوة أوروبا الناهبة للثروات. ولجعل المهمّة يسيرة ودون تكلفة أوكل أمرها إلى نخبة كانت ملكيّة أكثر من الملوك أنفسهم.

فاستمرّ التواطؤ الصامت لعقود وهمّش كلّ أصحاب السّرديات التي سعت إلى ملامسة الحقيقة مقابل الترويج للدّولة الوطنيّة والدّولة الحداثية التي حدثت كلّ هذه الانتهاكات داخلها والدّعاية لأصحابها الذّين أصبح الكثير منهم في سدّة الحكم وظلّ أمر الثروات وعقود الاستغلال متكتّما عليه حتّى حدوث الزلزال الذّي أربك الكثير فانبروا يحجبون ما استطاعوا من الوثائق فالتاريخ هو الوثائق والوثائق وحدها هي الأقدر على إثبات ما كان مجال تخمين لدى الكثير من التونسيين.

من هنا كانت حالة الارتباك واندفاع بعض المؤرخين إلى التشكيك والتكذيب. كان الخوف من سقوط ورقة التوت الأخيرة. وها هي قد سقطت وظهرت عورة " الفكر" الحداثي البورقيبي والتاريخ الوطني الذي كان تاريخ الفرد الواحد وتاريخ الحجب والانتقاء. تاريخ إرضاء النزوات والنرجسيّات الذي عطّب تقدّم وطن كان يمكن أن يكون في مصاف الدول المتقدّمة لو تمسّك بسيادته الوطنيّة وبالتحكّم في ثرواته.

نشر الوثائق أظهر أنّ أساطيرهم التي جنّدوا لها الأقلام أوهن من بيت العنكبوت. يكفي هبّة حقيقة واحدة كي تتداعى. كما أظهر أنّ كلّ القوى التي تكتّلت على امتداد عقود وحتّى الآن من أجل " استحمار " التونسي لم تستطع هزم الوعي التونسي. بل إنّ الوعي يزداد تجذّرا مع كلّ صنم يسقط.

مع كلّ صنم يسقط تبزغ فكرة متوهّجة وإرادة حرّة على تحقيق السيادة الكاملة. مع كلّ صنم يسقط نهاية لتاريخ الاستعمار و " الاستحمار ".

تحطيم الأصنام هو الخطوة الأولى للانتصار.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات