في تخاذل المثقفين

Photo

كلّ ما يحدث في هذه اللحظة التاريخيّة الفارقة يؤكّد، كما أكّد في لحظات سابقة، تخاذل المثقّف التونسي الذّي لم يجرؤ حتّى الآن، باستثناء البعض، على إلقاء الأسئلة الحقيقيّة وعلى الحفر الأركيولوجي العميق الذي يطرح سؤال اللّحظة الراهنة لفهم أعطاب الحاضر.

فبعد زلزال الوثائق وتصدّع السرديّة التاريخيّة القديمة كنّا ننتظر تهافتا على الوثائق من أجل البحث والنظر والتحقيق العلمي ولكن نفاجأ بأنّ بعض " المثقّفين " ومدرّسي التاريخ العالقين في وظائفهم سعوا إلى حشر التونسي في زاوية السرديّة الجاهزة ومنعه من التّفكير والاطّلاع فكان موقفهم دليلا على تواطئ ضدّ الحقيقة وضدّ المعرفة الصحيحة بالتاريخ التي تمثّل قاعدة لبناء الحاضر.

لقد حاول هؤلاء إخفاء المعول الذي يهدم به المثقفون الأصنام التي أقيمت في عتمة التاريخ في غفلة من الناس فجانبوا بذلك دور المثقّف الحقيقي ليتحوّلوا إلى مجرّد " تقنيي " معرفة مختصّين في مجال ضيّق يضيق بهم عن القيام بالدّور التاريخي: دور البحث في المتخفّي والتقصّي في الغياب من أجل منعطفات تاريخية حاسمة تقطع مع العقل الثبوتي وترجّ الكتابة النمطيّة التي رعتها دولة " التاريخ الواحد " لعقود، وتكشف المسكوت عنه والمقصى والمهمّش.

إنّ إضاءة المظلم في تاريخنا مهمّة كلّ مثقّف حقيقيّ وهي إضاءة تقتضي النظر حتّى في ما سمّاه فريديريك نيتشه ب " الوثائق الرماديّة " وهي الوثائق المهملة التي لا نتوقّع أن تقدّم إلينا إضافة ولكن قد يكفي فكّ ألغازها لنكتشف أنّنا بقينا نعتقد زمنا طويلا في أوهام عديدة تحوّلت لدى البعض بفعل امتدادها في التاريخ إلى حقائق راسخة.

لقد كان التخاذل مقصودا فإثارة هذه الأمور التي تمّ طمسها والتي لا يرغب البعض اليوم حتى في مجرّد سماعها تمثّل تهديدا لمصالح متشابكة ومعقّدة ومتداخلة وبمواقع ومناصب ومصالح. ومن هنا كان من الضروري أن يكون التاريخ مطابقا لهذه المصلحة وأن يلوى عنقه ويبتر بعضه ويغيّب بعضه من أجل المحافظة على البناء السردي الواهم للتاريخ المتّفق مع " مشروعهم " وأن يتحوّل هذا البناء إلى صرح مقدّس.

إنّ الحقيقة اليوم هي ألدّ أعداء " المثقّف " المتخاذل والمتواطئ وهو الذي يفترض أن يصدع بالحقيقة فإذا به يحاصرها ويضع يده على فمها كي يكتم صوتها العالي. ذلك أنّ انتصار الحقيقة يعني تهاوي رؤوس كثيرة.

وانتصار التاريخ يعني تداعي صروح الوهم التي بناها المتواطئون وتمعّشوا بها لسنوات طويلة. وانتصار الحقيقة يعني خسارات كبرى غير قادرين على تحمّلها. وانتصار الحقيقة يعني سقوط الوعي المزيّف الذّي بنوه لبنة لبنة بإتقان في العقل التونسي. وانتصار الحقيقة يعني فقدان الأحزاب لفئات وشرائح واسعة مجهّلة ومغيّبة الوعي ممّن يمثّلون " جيشا انتخابيا " يعوّلون عليه للانتصار في انتخابات قادمة. وانتصار الحقيقة يعني الوقوف عراة أمام الشعب بعد أن تستّروا عن أخطائهم بنسيج من الأراجيف.

لا يخشى الحقيقة إلّا من بنى مصلحته على الأراجيف. لذلك لم يتمسّك بها إلّا القليل ولم يحتف بها إلّا القليل. لم نجد مثقفين وفنّانين ومسرحيين ومغنّين وروائيين ورسّامين وإعلاميين وباحثين يحرصون على إبلاغها للناس إلّا القليل. لقد برهنوا على أنّهم مكبّلون وأسرى مصالحهم ومطامعهم ومصالحهم الماديّة. وغرق الكثير في المعارك الوهميّة التي لا تتطلّبها اللحظة التاريخيّة. هو غرق من يبحث عن دور له للتموقع فإذا به يقوم بدور التزييف.

إنّ قول الحقيقة تحتاج صفات غير موجودة في " مثقّفي " تونس اليوم.

في " ليلة من أجل العدالة الانتقالية " عشت حلما وخيبة:

رأيت مثقفي تونس تمور بهم الأرض وهم يتّحدون من أجل الدّفاع عن الحقيقة والكرامة ورأيتهم يبدعون أجمل الأعمال على الأرض والجدران والأرصفة وعلى الشاشات المعلّقة في الشّوارع وبحناجرهم وأناملهم وأجسادهم.

رأيتهم يتحرّرون من إرث الاستبداد ومن زيف التاريخ ومن جشع الغريزة وضيق المصلحة. رأيت الشوارع تمتلئ بهم بعد أن أدركوا أنّ هناك وعي جديد وذاكرة جديدة يجب أن تبنى وتحتاج لبنائها إلى كثير من الشجاعة والجرأة.

كدت أصدّق لولا أنّ صديقتي وضعت يدها على كتفي لتوقظني من حلم اليقظة وتهمس لي: إنّ حضور المثقّفين ضعيف.. وخاصّة مثقفي اليسار. ليس هناك مثقّف يساري واحد تقريبا..

ـ لم أنتظر أكثر من هذا العدد.. وفي التاريخ ما يشهد على أنّ أقليّة من المثقّفين الحقيقيين استطاعوا تغيير التاريخ.

كانت هذه الفكرة سبيلي لتجاوز خيبتي الأزليّة: الخيبة في المثقفين.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات