حكومة المشهد الاستعراضي لم تنجح في طمأنة التّونسي رغم الاستعراض التّلفزي الفرجوي الذي قدّمته والذّي يوهم بالتّماسك النّجاح والثّبات سعيا إلى تلميع أداء الحكومة والتّسويق لحكومة الوحدة الوطنيّة ، بل إنّ ظهور الحكومة بهذا الشّكل التّسويقي ضاعف القلق الجماعي وجعل المشهد يؤذن بأزمة حقيقيّة قادمة ما لم تحوّل الحكومة المشاهد الاستعراضيّة إلى فعل حقيقيّ.
فهذه الحكومة التي توهم بكثير من الإصلاحات لم تستطع تجاوز السّطح ولم تكن قادرة على إجراء عمليّات بمشرط الجراحة لعلاج ما استعصى وتغلغل في العمق والنّفاذ إلى الفساد الذّي ينخر المؤسّسات ويستنزف قواها من الدّاخل لذلك اكتفت بمكافحة بعض اللصوص الصّغار كالمهرّبين الصّغار أمّا الأسماك الكبيرة فقد استعصت عليها وإلى اليوم لم نسمع بمحاسبة جديّة للفاسدين الكبار الذين تسبّبوا في إفلاس البنوك العموميّة بل نجد الدّولة تضخّ من الأموال العموميّة أموال دافعي الضّرائب ما يزيد عن 1200 مليار لإنقاذ البنوك العموميّة ورسملتها في الوقت الذّي ينتظر فيه دافع الضّرائب التّونسي الذّي يدفع ضريبة نهب لا يتحمّل مسؤوليته معرفة من نهب أموال هذه البنوك وهذا حقّة المشروع كمواطن كامل الحقوق.
كما لم نسمع بمحاسبة جديّة لمن تسبّب في انهيار مؤسّسات عموميّة كبرى كالصّنادق الاجتماعيّة ولا لمن ساهم في تحويل التّعليم والصحة والنّقل إلى مجالات للهدر اليومي للإنسان.
الحكومة اكتفت بإخفاء رأسها في الرّمل وسط ضغط اللّوبيات وتراجعت عن الإصلاح الحقيقي ولم تستطع الذّهاب بعيدا نحو الإصلاح الاجتماعي لأنّها خاضعة لإرادات أقوى وتوجّهات مفروضة بل تركت المجال مفتوحا لرجال الأعمال لتسلّم قروض ضخمة دون ضمانات لبناء النّزل وإنجاز المشاريع الكبرى وأشرعت الأبواب لليبيرالّة اقتصاديّة غير مدروسة لا مشروع لها غير الرّبح الوفير.
أوهمت بإصلاح التّعليم وانبرى الوزير في صولات وجولات استعراضيّة تخدم صورته ومطامحه السياسيّة أكثر ممّا تخدم التّعليم العمومي الذّي يزداد تداعيا كلّ يوم ويدفع الجميع إلى البحث عن الخلاص الفرديّ. وفي غياب مشروع حقيقيّ للإصلاح يندفع من يملكون المال نحو الخاصّ وهو نفس ما يحدث في الصحّة وفي النّقل ويظلّ من لا يمكلون المال يتبعثرون كلّ يوم في خراب العمومي.
وسط كلّ هذا يصبح غبار المعارك التي تقام إثر إقالة وزير أو تغيير آخر هو " قتال " في المكان الخطأ.
فالمعركة الحقيقيّة الأولى هي خيارات الدّولة الاقتصاديّة. وفي كلمة " خيارات " مخاتلة إذ الأمر في الحقيقة توجّهات مفروضة على دولة لا تحمل مشروعا وطنيّا حقيقيّا بل تعيش وسط عالم تتبعثر فيه الكيانات الصّغرى محاولات إنقاذ ذاتها من الانهيار فتغرق أكثر في التبعيّة الاقتصاديّة مقابل الخضوع لإملاءات لا تتماشى والنّمط المجتمعي ولا القيم ولا رؤيتنا للعالم من ذلك الإعلان على لسان بعض مسؤولينا عن كون المثليّة والزّطلة من الحرّيات الفرديّة وهو إعلان يعكس رغبة في إرضاء أصحاب الإملاءات أكثر ممّا يعبّر عن تصوّر مجتمعيّ أو مشروع ثقافيّ وحضاريّ خاصّ.
ومعركتنا الحقيقيّة أيضا هي انسحاب الدّولة من دورها الاجتماعي المتمثّل في حماية الفئات الضّعيفة عبر مؤسّساتها الاجتماعيّة وعبر احتضان القطاعات التي تقدّم خدمات عموميّة للإنسان وإنقاذها من الخوصصة كالتّعليم والصحّة والنّقل وهي خدمات تتولّى الدّولة حتّى في أعتى البلدان الرّأسماليّة توفيرها للمواطن فهي الحدّ الأدنى المتاح للعيش الكريم. واليوم نجد في كثير من البلدان الرّأسماليّة التي جرّبت الخوصصة تراجعا عن خوصصة هذه القطاعات وعودة إلى احتضانها سعيا إلى تقديم الخدمات للمواطن وتوفير الحدّ الأدنى من الرّفاهية له.
الدّولة الضّعيفة بأجهزة ضعيفة وبإدارة نخرها الفساد ولا يزال لا يمكنها إلّا أن تتخلّى عن دورها وتفتح الباب للقطاع الخاص الذّي يفتح فمه ليلتهم هذه القطاعات وللإثراء على حساب مواطن مهدور الكيان.
كلّ هذه المعارك الكبرى يقع تعويمها بإطلاق دخان المعارك الشّخصيّة وتضخيم بعضها للتّعتيم على حالة انحباس إجرائيّة وقانونيّة أيضا. فالمنفّذون والمشرّعون ليسوا أحرارا بل هم واجهة لمن يحكم من الخلف. ولوسطاء الثقافة والاعلام دور كبير في عمليات التعتيم والتعويم فنستيقظ يوميّا لنجد أنفسنا قد تحوّلنا إلى محاربين لأعداء وهميين أو لأعداء من ورق أو لأعداء افتراضيين ونستميت في القتال إلى حدّ إهدار قوانا قبل أن نعود محمودين " برأس عظيمها " الوهمي على طريقة عنترة بن شدّاد.
أمامنا أعتى المعارك وهي لا تحتاج انفعالات عنترة ولا بطولاته وإنّما تحتاج تصوّرا بديلا ومشروعا مقنعا لمن يتبنّى الدّفاع عن الدّيمقراطيّة الاجتماعيّة يكون قادرا على جمع النّاس حوله واعتباره الحلّ الممكن لواقع يزداد ارتباكا وتعقّدا.
دون ذلك نحن نقاتل في المكان الخطأ..