إثر كلّ تسريب وإثر كلّ كشف تحاصرني نفس الأسئلة: أين الجديد؟ أليس هذا ما كنّا نخمّن؟ هل كنّا نحتاج الوثائق لنعلم ما نعلم؟ أيّ جديد جاءت به الوثائق حين تخبرنا أنّ محسن مرزوق مثلا قد يكون متورّطا في محاولة فتح شركة لتبييض الأموال أو التهرب الضّريبي في حين أنّ دلائل تشير إلى إمكانية تورّطه فالاجتماع الأخير والعدد الكبير والمفاجئ لجمهور حزب مشروع تونس الذي ملأ المدارج ونوع الجمهور يؤكّد أنّ هناك مال كبير وكبير جدّا يحرّك هذا المشروع الذّي يريد الظّهور بقوّة في السّاحة السياسيّة وهي نفس قوّة المال التي سعى بها سليم الرياحي إلى اكتساح السّاحة السياسية زمن الانتخابات. وهي نفس قوّة المال التي جعلت بعض الأحزاب " البروليتاريّة " تقوم بحملات شبيهة بالحملات الانتخابية على الطريقة الأمريكيّة وهي أيضا قوّة المال التي أوصلت الأحزاب الموجودة في الحكم إلى الحكم.
كلّ هذا يجعل سؤال الأموال مطروحا من جديد وبحدّة . المال السياسي الذّي حوّل الوجهة وفرّخ أحزابا لا مشاريع لها غير الحصول على السّلطة.
من أين لك هذا؟ من أين لك أن تحشد كلّ هذا العدد الضّخم من البشر؟ وما هو هذا المشروع الذّي يبدأ بقانون منع النّقاب ليسقط النّقاب عن المشروع الحقيقيّ.. مشروع منطلقه الفساد ومنتهاه الفساد. وهو فساد لا يستحي لأنّه يحارب حقّا مشروعا هو حق اللباس في حين قد تكون قدماه غارقتين في مستنقع الأموال المشبوهة؟ وهو لا يستحي أيضا لأنّه يقدّم نفسه مشروعا بديلا لإنقاذ البلاد.. إنقاذ البلاد ممّ ومن ماذا؟
ثمّ ماذا نحن فاعلون إذا كان أغلب الناس يعلمون لكنّهم رغم ذلك يميلون إلى الفاسدين والقتلة والمجرمين ؟ وماذا نحن فاعلون مع من يجد التبريرات لكلّ ذلك بل يجد ذلك طبيعيّا ما دام الفساد عامّا و " إذا عمّت خفّت ".
ما وقع يكشف غياب الآليات الكفيلة بمقاومة الفساد في بلادنا وهو فساد متغلغل يمدّ جذوره في العمق كشجرة خروع عجوز. وأيضا غياب صحافة حرّة قويّة قادرة على فتح الملفّات الكبرى وممارسة الضّغط بل هي في أغلبها صحافة في خدمة الفساد القديم والجديد وأيضا غياب ثقافة مواطنة مقاومة للفساد فالثّقافة السّائدة ثقافة تهادن الفساد وتتساهل معه وتمارسه ابتداء من المواطن البسيط الذّي يرشو موظّفا بسيطا في إدارة من أجل قبول ملف ابنه العاطل أو قاضيا من أجل التملّص من تهمة ما وصولا إلى رجال أعمال ورجال سياسة يمارسون تبييض الأموال والتهرب الضّريبي.
وثائق بنما هذا البلد الصّغير الذي يعدّ جنّة ضريبيّة للمتهربين من الضّرائب لم تكشف سوى القليل من الكثير. لعلّها الشجرة التي تخفي الغابة. ولكنّها يمكن أن تمثّل رجّة للرّأي العام كي يكفّ عن التّساهل مع من يرتكبون جرائم في حقّه وأهمّها جرائم الاستيلاء على المال العام وتهريبه عبر شركات عابرة للقارات وأيضا رجّة للوعي العام كي لا يسير في انتخابات قادمة وراء شخصيّات مشبوهة تملك قوّة المال وبه تسيّر الإعلام و استراتيجيات التحكّم في الرّأي العام.
سيكون من التراجيدي أن يقع الشّعب في فخّ التحيّل مرّات ف " المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين " ولكن يبدو أنّ التّونسيّ قد يقع في الفخّ مرّات ومرّات وكأنّما يستلذّ وقوعه في الفخّ ويستلذّ أن يحكمه " محتالون ".
الشّعوب الحرّة تخرج بالملايين للاحتجاج بنفسهاعلى مسؤوليها الذين يمارسون التهرب الضّريبي وعزلهم لا انتخابهم وإيجاد التبريرات لهم.
لذلك .. انتخاب " المتحيّلين " علامة دالّة على عميق حاجتنا إلى أن نكون مواطنين بثقافة جديدة ووعي جديد وقيم جديدة وممارسة جديدة لمقاومة فساد لا يستحي.
ولن يتقلّص الفساد ويتراجع إلّا إذا قام المواطن بدوره كاملا في مقاومته بمقاطعته ومحاربته في تجلياته المختلفة وأيضا بتجاوز قصّة العشق الأبديّة بين السّلطة والمال الفاسد وهي القصّة التي تنتهي بزواج الحبيبين وبخيبة القارئ الغبي.