سلوان ليلى

Photo

في أمسية دون قمر، وجدت نفسي البارحة على سفح جبل بوقرنين في مسرح أنتظر " سلوان " ليلى طوبال.

كان الطّلب من ابنتي التّي جاءت من غربتها هناك، غربة الدّراسة، تبحث عن سلوان في وطن تشتاق إليه بكلّ تفاصيله من مسرحه إلى صحن الكفتاجي فيه.

واستجبت بحثا عن سلوان، في غربتي هنا، أجده في رفقتها الجميلة في مسرحيّة نشاهدها معا أو أغنية نطرب لها أو فكرة حرّة نشرب قهوة على ضفافها.

جلسنا ننتظر " سلوان " في الوسط.. وقالت لي ابنتي مازحة وهي ترى جمهور نساء من نوع واحد يملأ المسرح: " ماما قد لا تروق لك بعض الأشياء في المسرحيّة ". قلت لها: " نحن هنا من أجل الاختلاف الجميل ".

وانتظرنا الاختلاف الجميل الذّي بدأ مع حضور بعض نوّاب مجلس الشّعب ممّن لمّحت إليهم ليلى طوبال بجماعة: الصّفر فاصل معلنة بفخر انتماءها إليهم في سياق المسرحيّة.

كانت المسرحيّة تداخلا بين لوحات رمزيّة تناغم فيها جسد الممثّلة المرن مع الموسيقى و الأضواء والظّلال لصنع الفرجة .

وبين حكايات متداخلة ومتواترة تتداعى دون انقطاع وترويها الممثّلة دون توقّف في هدوء حينا وتشنّج مبالغ فيه حينا آخرهاجسها تأجيج الذّاكرة ومقاومة النّسيان.

مدار الحكاية امرأة تواجه حكم الإعدام لأنّها قتلت زوجا اغتصب ابنته وتتداعى الحكايات التي تكتظّ في ذاكرة المرأة لتروي ما حصل في تونس خلال السّنوات الثّلاث بعد الثّورة في سعي إلى " نحت الذّاكرة والتّوثيق " كما تقول الفنّانة المسرحيّة.

وبين الرّمزيّة التّي ترتقي بالعمل إلى مدارات جماليّة والواقعيّة الفجّة التّي تهبط بالعمل إلى القرار من خلال المباشرتيّة الفظّة والنّزعة التّهريجيّة عبر شتم بعض الوجوه السّياسيّة بعد الثّورة شتما صريحا تنكشف تدريجيّا الخلفيّة الإيديولوجيّة الضيّقة والاستئصاليّة التّي تحكم العمل والنّزعة " الثّأريّة " الممزوجة بعشق الوطن من زاوية خاصّة جدّا حيث يصبح مدار الحديث " جهاد النّكاح " و " ختان البنات " و " أصحاب اللّحيّ " و " تونس إلّي ما باش تتنقّب " وحيث يصبح مدار المسرحيّة التطرّف الدّينيّ الذّي يهدّد الوطن والمرأة خاصّة وهو تطرّف يختزله النصّ في المحجّبة والمنقّبة والملتحين والشّيوخ وفي بعض السّياسيّين الذّين يمثّلون " صنّاعا للإرهاب ".

وتتصاعد ثورة المرأة على الرّكح التّي عبّرت عنها من خلال حركة الجسد المتشظّي وجعا وانكسارا لتصبح ضربا من " الهستيريا " ضدّ طائفة في المجتمع تتّهمها بوأد الحلم وقتل الأمل. ويتصاعد الصّراخ ليصل قمّة جبل بوقرنين وهي تذكر الشّهداء الذّين اغتيلوا بعد الثّورة ويمتزج كلّ هذا في شكل هذيان محموم مع الغضب العاصف على ثّقافة ذّكوريّة تتّهم كلّ امرأة حرّة بالعهر والزّنا والفجور ودعو إلى سحلها ورجمها ووأدها..

وتنتهي المسرحيّة " الدوّامة " بصرخة مدويّة إلى الحلم: هذا الحلم لكم.. صرخة درويشيّة أضفت شعريّة على النصّ الذّي ظلّ حبيس ذاكرة واحدة.

سلوان نصّ من وجع وضدّ النّسيان ولكنّ صاحبة " سلوان " نسيت ونسيت الكثير وهي تدوّن ما حدث خلال السّنوات الثّلاث. والنّسيان هنا مردّه " ثأريّة " النصّ الذّي جعلها تختزل الصّراع في بعده الهوويّ المفتعل. وهو صراع وقع النّفخ فيه وتضخيمه ليغطّي عن الصّراع الاجتماعيّ الحقيقيّ الذّي كان يفترض على " اليسار " حارس أحلام الفقراء " أن يقوده. ولكنّ اليسار " حارس أحلام الفقراء " ترك الفقراء للرّيح وأفرغ الصّراع من بعده الاجتماعيّ بعد أن وجد عدوّه التّاريخيّ في الحكم. فتحالف مع " الشّيطان " الذّي اصطنع معارك من هنا ومن هناك ليحوّل وجهة الصّراع وينحرف بالتّاريخ الذّي تعثّر في ربيعه الحزين.

سلوان نسيان ونسيان موجع لدواعي عودة منظومة قديمة ساهم " أبناء السّلوان " الذّين يجدون سلوانهم في زجاجة " رمزيّة الزّجاجة في المسرحيّة " في عودته.

سلوان لا تكتب ذاكرة جماعيّة بل تكتب ذاكرة فرديّة لم تغادر كهف السّبعينات ولم تتحرّر من نزعة الثّأر ولم تقدر على التّعايش وعلى الاختلاف الجميل.

أنا الآن أطلب سلوانا آخر. أذكر أنّ ابنتي قالت لي ونحن نغادر المسرح ( بعد أن شبعت ضحكا من بعض المقاطع في المسرحيّة ): " ماما بغضّ النّظر عن بعض اللّوحات الجميلة في المسرحيّة وعزف العود العذب والمقاطع الشّعريّة أشعر أنّ ليلى طوبال " جات تفرّغ في قلبها " أو " تعارك " كيما يعاركو بعض النّساء "

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات