في الشّريط الأمريكي: المشي ( 2015 ) يحلم البطل فيليب الصّغير عاليا بالمشي على حبل معلّق فوق الفراغ بين برجي مركز التّجارة العالمي بنيويورك بعد أن عبر بنجاح مواقع أخرى مثل كاتدرائيّة نوتردام في باريس. الشّريط يروي قصّة حقيقيّة لفرنسيّ حقّق في أوت 1974 حلمه بالمشي على حبل بين البرجين ووظّفت للتّصوير تقنيات عالية تحملك إلى مدائن الرّعب الشّاهقة حيث يصل الأمر خاصّة في مشهد العبور على الحبل بين البرجين اللّذين يناطحان السّحاب إلى الشّعور بالدّوران والدوار وتشتدّ الإثارة ويأخذك الرّعب ويظلّ القلب معلّقا تنتظر كلّ لحظة سقوط البطل في الفراغ العميق حيث المئات تشرئبّ أعناقهم فوق لرؤية مصير الحالم بالمشي عاليا وتشتدّ الارتعاشة مع ارتعاش قدميه وميلان العصا التي يمسك بها في الوسط.. سيسقط.. لن يسقط.. ويكاد يتوقّف القلب لحظة عبثه برجال الشّرطة الذّين يسعون إلى الإمساك به وهو في الفضاء بين أرض وسماء لا شيء عنده سوى الحبل والعصا فيلتفت إليهم وهم على سطح أحد البرجين ويوهمهم بالاقتراب منهم ثمّ فجأة يستدير في قفزة مدهشة على الحبل بعد أن يلقي بالعصا في الفضاء فوق ليعيد الإمساك بها من جديد عائدا من حيث أتى على الحبل دائما إلى البرج الآخر مبتعدا عن رجال الشّرطة عابثا بالفراغ والمستحيل وبالبوليس..
شريط: المشي للمخرج الأمريكي روبرت زيمكيس وللممثّل: جوزيف غوردن لوفيت اختير له عنوانا ثانيا فرنسيّا هو: أن تحلم أعلى.. شريط يدفعك إلى أقاصي الدّهشة ويحملك إلى معان سامقة وأحلام شاهقة لروح مغامرة مجنونة..
الشّريط الذّي هزّني عاليا وحرّك مشاعر كامنة وأحلام شاهقة حول الوجود الذّي يمكن أن نعيشه بطريقة ثانية فجّر في ذهني أفكارا عديدة لعلّ أوّلها فكرة الكتابة..
الكتابة التي تشبه اليوم وسط الفوضى العارمة التي نعيش المشي على الحبل في مكان شاهق تحذر فيه التّهاوي كلّ لحظة..
الكتابة ما فوق الإيديولوجيا وخارج الطّرق المسطّرة تشبه السّير على حبل يرتعش كلّ آونة وتحتاج أن تكون ثابتا واضحا مؤمنا كي لا تبتلعك الهاوية..
تحتك الفراغ عميق وحولك الضّباب كثيف فتغيم الرّؤية وتخاف المزالق.. أين أضع قدمي؟ أين أضع قلمي؟ كيف أكتب؟ كيف أسير؟ هنا؟ لعلّي أقع في هاوية الوثوقيّة؟ هناك؟ لعلّني أقع في فخّ الأحكام المسبقة؟ في سجن الأنساق المغلقة؟ في الرّداءة والمجاملات؟ في الولاء عن قصد أو دون قصد؟ في السّطحيّة والمسايرة؟ في المغالطة وتزييف الوعي؟
في الأسفل تحتك قارئ ذكيّ وفطن يتطلّع إليك ينتظر ويتتبّع خطواتك لحظة بلحظة وينتظر المآل وقد يخفق قلبه معك ويصرخ وهو يراك توشك على بلوغ المنتهى وقد يخيب فينصرف عنك وقد يتربّص بك ليقبض عليك وأنت ترتكب زلّة ما..
ترتعش قدماك وتهتزّ العصا التي تمسك بها فتميل يمينا قليلا ثمّ تميل يسارا قليلا وتخشى دخان المعارك الجانبيّة المضلّلة ومتاهات الانحراف وتخاف أن يجذبك الهواء والهوى فتثبّت قدميك على الحبل وتتمسّك بقوّة بالعصا .. عصا التّفكير الحرّ حيث لا سلطة على العقل هناك بعيدا عن الميولات والأهواء والمصالح والحسابات والآراء ..
كيف تظلّ حرّا وأنت على الحبل وسط احتمالات السّقوط الوشيك في الهاوية حيث القاع يتّسع للجميع؟ وحيث يتحوّل البشر وسط تلاعب العقول تدريجيّا إلى قطيع؟ حولك الحفر وأنت كما في الحلم تسير على حافة الأشياء تحذر الانزلاق في مدح أو هجاء أو في مرثيّات وبكاء أو في طاعة وولاء..
الكتابة على الحبل: أن تكتب ما بين القوالب الجاهزة المرتفعة كناطحات سحاب..
بين المشي على الأرض والمشي على حبل معلّق في السّماء مسافة فاصلة تماما كالكتابة على الأرض والكتابة على حبل معلّق في السّماء.. هي الفرق بين الكتابة المهادنة المسايرة المنغلقة المحنّطة والكتابة الرّاجّة المذهلة المغامرة التي تتوقّف لها القلوب ..
وفي انتظار الوصول إلى منتهى المنى أو السّقوط في الهاوية تظلّ متعة الكتابة عاليا والحلم عاليا والتّفكير عاليا بعيدا عن الدّرجة الصّفر من الكتابة والدّرجة الصّفر من الحلم والدّرجة الصّفر من التّفكير التّي يراد أن يزجّ بنا فيها متعة حقيقيّة لا تضاهيها أيّ متعة أخرى..
شريط المشي يمكن أن تشاهده ألف مرّة وتفهمه بألف طريقة. هو حلمنا الشّاهق بوجود آخر.. وبكتابة أخرى..