القديم لا يريد أن يذهب.. لا يريد أن يتنحّى عن وطن قال له: ارحل بل هو يتجدّد ويعيد إنتاج نفسه بأشياء كثيرة.. وبالهراوات..
الهراوة كرمزيّة على القوّة كانت دائما في قبضة القديم لإرساء كيانه. صارت الهراوة " ثقافة " متغلغلة في حزب قديم لم يخف خلفيّته الفاشيّة منذ البدايات ويبرّرها بضرورة التّأسيس وقيام الدّولة بعد " الاستقلال " وهو ما يستدعي القوّة. تعامل مع المواطنين كرعايا وقطعان يقودهم بالهراوة ويوجّههم بالهراوة ويلغي بها كلّ من يعترض طريقه. الثّعالبي الذّي مات طريدا شريدا وصالح بن يوسف الذّي تمّ اغتياله والتّنكيل بالخصوم الذّين رفضوا الطّاعة والانصياع لسياسة الهراوة وخاصّة أنصار صالح بن يوسف واليسار الحقيقي والإسلاميين الذّين مثّل التّنكيل بهم أكبر إخفاق للدّولة التي تدّعي حداثة في تعاملها مع موضوع الدّين.
مع بن علي صارت الهراوة ناعمة في ظاهرها بادّعاء التّغيير ووهم الدّيمقراطيّة. لكن ضربات الهراوة كانت أكثر قوّة ونجاعة وكشفت حقيقة الدّولة البوليسيّة التّي تشيع الخوف وتنشر الرّعب وتكمّم الأفواه. تحت المؤسّسات المدنيّة الدّيمقراطيّة الحداثيّة كانت الدّولة تذبح والفساد يستشري والهراوة في قبضة البوليس يهدّد بها الأحرار وينتج بها انتهازيين ومثقّفين متملّقين وصحفيين وشاة ومخبرين وإعلاميين مزيّفين. وفي أعماق المجتمع حيث الشّرائح المهمّشة كانت الهراوة في يد العمد والشّعب التّرابية وسيلة لهدر كرامة الإنسان وحريّته وإنتاج " قطيع " بشريّ يحكمه الخوف ويقاد إلى الانتخابات المزوّرة والاجتماعات البنفسجيّة. ولم تمتنع بعض المنظّمات أيضا عن استعمال الهراوة من ذلك اتّحاد الشّغل فتأسّست بذلك بيروقراطيّة نقابيّة مارست سطوتها التّامّة وخنقت كلّ نفس ديمقاطيّ داخله. كان زمن حكم الهراوات.
سياسة الهراوة على مدى عقود أنتجت معارضة مهزوزة مفكّكة الأوصال رغم محاولات كثيرة للانصهار في كتلة واحدة. معارضة خرجت مشوّهة من رحم القديم تحمل كثيرا من ثقافته لذلك ما إن حدثت الرجّة حتّى وجد الوطن نفسه دون طبقة سياسيّة قويّة تقود اللّحظة. بل وجد فئة من انتهازيي السّياسة المعارضين سابقا قادرين على استعمال كلّ الطّرق حتّى " الهراوة " برمزيّتها للوصول إلى الحكم. كانت معارضة بثقافة قديمة ورؤية قديمة للسّياسة وعداوات قديمة وأحقاد تاريخيّة وكهوف سبعينيّة لم يستطيعوا مغادرتها فكانوا كأصحاب الكهف الذّين استيقظوا ذات سنة فوجدوا التّاريخ تجاوزهم فسعوا إلى التّحالف مع القديم الفاشي العائد تحت عباءة الحداثة ونقاب الدّيمقراطيّة في شكل نداء لإنقاذ الوطن وإلى التوحّد معهم داخل حزب هجين التّكوين من أجل الوصول إلى السّلطة الجديدة التي امتلكها أعداؤهم التّاريخيين. ولكن السّحر انقلب عليهم وها هو القديم يحاربهم ليتخلّص من وجودهم الطّفيليّ المتسلّق داخله. يدرك انتهازيّتهم وتحكمه فاشيّته وقوى المال وراءه بمصالحهم وغطرستهم ولن يتنازل بل سيخوض معركة البقاء بالتّحالف مع أعدائه القدامى: الإسلاميون الذّين يعملون على البقاء أيضا.
لم يتقدّم الجديد. كان فاشلا متعثّرا تشدّه ثقافة القديم بأحابيله. ظلّت ثقافة القطعان والرّعايا رغم الدّستور الجديد وساهم في ترسيخها إعلام هو تربية مدرسة قديمة مع قوى مال تحرّكه مارس صناعة الخوف و " الهراوة المعنويّة " التي ظلّ يقرعها على رؤوس الناس حتّى قالوا: لنعد كما كنّا.. تبّا لهذه الثّورة..
وكانت أكبر جريمة ترتكب في حقّ الوطن..
الجديد لن يتقدّم إلّا برؤية جديدة قاطعة مع القديم في تصوّرها للسّياسة والإنسان والمجتمع والثّقافة. سياسة تكسر الهراوة. الفاشيّة الكامنة والمتوارثة المنتشرة في أحزاب عديدة والتي تريد أن تمسك بالبلاد بقبضة من حديد. الفاشيّة التي لا تريد أن تعترف بفشلها في تطوير البلاد على مدى 50 سنة.
أمّا الجديد فلا يمثّله يسار متسلّق طفيلي دخل النّداء من أجل التّموقع. بل قوى وطنيّة حقيقيّة جديدة عليها الآن أن ترفع صوتها عاليا وتصوغ مشروعها البديل بشجاعة وبأخلاق لا يملكها صغار النّفوس الذّين يصنعون أوطانا صغيرة كأقزام.
آن أوان استبدال الهراوة بوردة النّار..