الخطّاف وحده لا يصنع الرّبيع لذلك فإنّ الخطّاف الذّي بنى بيته الطيني قشّة قشّة وحصاة حصاة في وقت قياسي فوق فانوس باب بيتي الخارجي وترك أثناء عمليّة البناء قشّا كثيرا وحصى على أرضيّة البيت كان في الحقيقة يريد أن يصنع معي الرّبيع.
وكنت أضطرّ كلّ مرّة وأنا أعاين قدرة الطبيعة على صنع الحياة إلى جمع ما يلقى على الأرضيّة مبتهجة في البداية بجاري الذي اختار بيتي دون البيوت. خطّافي الجميل هذا باض بعد قصّة حبّ جميلة مع خطّاف مذكّر وفرّخ خطاطيف صغيرة ملأت العشّ تغاريد وأهازيج وامتلأ فناء البيت بالخطاطيف فما إن أفتح الباب حتّى تخطف بصري وقلبي عصافير الجنّة تحلّق فوق رأسي ثمّ تطير عالية في المنتهى تاركة فراخها السّنونوات الصّغيرة آمنة مطمئنّة في البيت الطّيني فأتطاول لأرى رؤوسها الصّغيرة وريشها المبلّل ومناقيرها الرقيقة.
استأنست زمنا بجيراني القادمين من بلدان الشّمال وتذكّرت تلك العادة التي تتبرّك بالخطّاف ونحن صغار فتطليه بالزّيت وترجوه قبل أن يطير أن يبلّغ السّلام للرسول في اعتقاد أنّ الخطّاف يتّجه إلى مكّة وإلى المدينة المنورة حيث قبر الرّسول ونغفل عن أنّ الخطاطيف قد تكون اتّخذت طريقا ثانيا في أرض الله الواسعة فتبتعد عن أرض آل سعود وكلّ الآلات في أرض العرب لترحل إلى بلدان أخرى وتصل تخوم الأقانيم السكاندينافيّة حيث لا عداوة بين الإخوة ولا مقاطعة ولا طفل يموت كلّ خمس دقائق نتيجة الحرب أو الكوليرا كما في اليمن ولا بشر يموتون بالانفجارات اليوميّة للسيّارات المفخّخة كما في العراق ولا رائحة الكيمياوي تخنق الإنسان وتقتل الأطفال بعيون مفتوحة كما في سوريا.
أستأنس بجيراني فأعدهم بالسّلام والوئام وأحرص عند غلق الباب على عدم إزعاجهم فأردّه بلطف شديد ولا أنسى وضع الماء لهم. ولكنّ جيراني لم يقدّروا جهدي ورغبتي في العيش بسلام معهم فمع كبر الفراخ وامتلاء العشّ وازدحامه نتيجة كثرة الإنجاب والرّغبة في الإخصاب والتهام الأفواه المفتوحة دائما لما تحضره الخطاطيف الكبيرة من طعام، صارت الأرضيّة تمتلئ يوما فيوما بأشياء عجيبة وغريبة سوداء وبيضاء ورماديّة سائلة تطلي العتبة وصرت وأنا أغادر البيت أقفز فوقها كغزالة قبل أن أعود لأمسك مباشرة بالمكنسة فأحكّك الأرضية للتخلّص من البقع التي تشرّبتها بعد سكب الماء وموادّ التّنظيف والرّوائح الصّناعية المزيلة للرّوائح الطبيعيّة.
صار هذا عملا يوميّا ومشقّة إضافيّة تأخذ جهدي فكلّ صباح تهديني خطاطيفي السّعيدة بوجودها ما شاءت من اللّوحات والرّسومات والمنحوتات والمطليات. أنظر إليها مهزومة وأفكّر: طيّب ماذا لوأقمنا عقدا اجتماعيا بيننا على طريقة روسو؟ أو توافقا على الطريقة التونسيّة: لا تطلقي أشياءك هذه وأتركك تعيشين بسلام. ليحترم كلّ منّا وجود الآخر.. لا تؤذيني ولا أؤذيك.
ولكنّ الخطاطيف ورغم تضحياتي الجسيمة لم تفهم مشاعري ولا أدركت حسن نيتي فأوغلت دون خجل وطارت تقذف بما تشاء وقتما تشاء على من تشاء وصرت أخشى على الزّائرين المهنّئين أن يطالهم أذى هذه الكائنات اللطيفة جدّا. وصرت بدوري وأنا أعبر الباب أتلمّش شعري لعلّ شيئا ما علق فيه وأتأكّد من سلامة ثيابي فجيراني الخطاطيف لا يبالون بشيء ولا يعلمون ما يقتضيه العمل والحضور الاجتماعي من لياقة.
إنّهم في الطّبيعة وخارج الثّقافة بكلّ قواعدها التي استنبطها الإنسان. أمتلئ بالحنق لكنّي أتذكّر في الأثناء ما كان يفعله أبنائي من " عمايل " وهم صغار مباشرة وأنا أستعدّ للخروج إلى العمل إذ يحدث أن يفرغ أحدهم بعد الرّضاعة بعض الحليب على ثوبي فجأة وفي الدقيقة الأخيرة قبل الخروج أو يمسك بطرف بدلتي بأصابعه الملوثة بالشّكلاطة أو يفعل أفاعيل أخرى أدهى وأمر فأذهب إلى العمل مسرعة ومزوّقة بألوان عجيبة ومعطّرة بروائح الطّفولة الخاصّة.
أتذكّر ما يفعله أبنائي فأغفر للخطّاف أفعاله وأتذكّر أنّ أبنائي كبروا وأنبتوا أجنحة وطاروا في أرض اللّه الواسعة يكدّون فيها فأقول في سرّي: ستكبر الخطاطيف الصّغيرة في ظرف شهر وستغادر مع الخريف وستترك البيت الطّينيّ خاويا، ولن تمطر سمائي حمما ولن تتلوّث الأرضيّة ثانية ولن أشقى.
ولكنّي سأكون حزينة. حزينة كأمّ فارقها أبناؤها إلى بلاد بعيدة. وسأعي آنذاك أنّ حضور الآخر في حياتنا بكلّ ما قد يقذفه على رؤوسنا من أشياء وبكلّ " عمايله " يظلّ أفضل من الذّهاب ومن الغياب.
هذا الصّباح وأنا أغادر البيت لم أجد الخطاطيف. رأيت البيت الطيني خاويا حزينا. وحين عدت كان أيضا خاويا. ردّدت مع فيروز:
راحوا .. متل الحلم راحوا
سهل حور .. وجنّت رياحو
مدري ع أيّ جبال .. نزلت مراكبهن المضويّة
ياريت شي خيّال .. عنهن يخبّرني بسهريّة
قومي انزلي عالدار .. نحكي حكايتهن المنسيّة
كان هَون وطار … رفّ العصافير الربيعيّة
لكن في هذا المساء وأنا أحكي " حكايتهم المنسيّة " للورق سمعت تغريدة. فتحت الباب ورأيتهم يجتمعون في العشّ ويزدحمون فيه. أدركت أنّهم يتدرّبون أثناء النّهار على الرّحيل. كبرت أجنحتهم ولا بدّ لهم من التّحليق. وعليّ أن أستعد لرحيلهم النهائي يوما.
سلاما أيّتها الخطاطيف.. سلاما أيّها الإنسان.. هو قدرنا : عيشنا المشترك رغم كلّ الأذى الجسيم الذّي قد يحوّل " الآخر جحيم " ورغم كلّ ما يقذف أحيانا على رؤوسنا من شيء عظيم.