حتّى الآن، يمكن أن نقول إنّنا أمام مترشّحين محترمين بأفكار ورؤى واضحة ومشاريع اجتماعية جريئة ( الياس الفخفاخ نموذجا) ولكنّهم يفتقدون إلى آلة انتخابية قويّة تجعلهم على كلّ لسان وفي حلم كلّ مواطن، وبين مترشّحين بخواء فكريّ ومجتمعيّ واضح ولكنّهم مدفوعون بآلة انتخابية قويّة وبلوبيات جهويّة وماليّة تجعلهم على كلّ لسان وفي كلّ خطاب.
ما يثير القلق أنّ المتلقّي لدينا عموما لا يجيد الإصغاء إلى الأفكار بقدر ما يخضع للطرق اليوميّ الذي يقع خاصّة عبر الصورة الخادعة ( القروي) ويغرق في الإشاعة والأراجيف والتفاصيل العابرة. ثمّ هو متلقّ في أغلبه تزعجه الأفكار الجديدة والجريئة وتخيفه التغييرات الجوهريّة، لذلك يطمئنّ إلى من يعيد إنتاج القديم بغلاف جديد ( النقاط الخمس ) .
فالعودة إلى النظام الرئاسي مثلا فكرة تلقى رواجا لدى الكثير، في شعور بالحاجة إلى الفرد القويّ المنقذ من الفوضى. غير أنّ أشدّ ما يثير القلق في مواقف المتلقين هنا، هو موقف المنحازين إلى الثورة التي تعني في ما تعنيه التغيير الراديكالي لواقع تعفّن ولم يعد بالإمكان التصالح مع مفسديه.
بعض هؤلاء أو الكثير منهم نجدهم اليوم بدافع "البراغماتية" السياسية ( براغماتية بالمعنى التونسي أي التحيّل وممارسة سياسة دون أخلاق لبلوغ المراد) يعبّرون عن موقف غريب إزاء أصحاب الأفكار الجريئة والمشاريع الوطنية الجذريّة، فبما أنّ حظوظ هؤلاء في الوصول ضعيفة فلا داعي للتصويت لهم!
هذا الموقف الذي يُلقى كحجر في بحيرة ويتمتدّ تموّجاته لتشمل الكثير يعبّر عن عقليّة استسلام لما تفرضه الآلة الانتخابية للمنظومة القديمة بشقوقها وأضدادها، وفقدان إرادة إزاءها وكسل في مواجهتها.
الاستسلام قبل خوض المعركة ودونها. ورغم الفارق الشاسع في مستوى البرامج ومستوى الخطاب بين من يحمل رؤية مستقبليّة تثوّر الواقع وبين من يحمل رؤية ماضويّة رجعيّة ( أعتبر القادمين من المنظومة القديمة بأصنافهم وتضاددهم رجعيين ) فإنّ التذبذب الواضح وضعف المبدئيّة والبحث عن المنفعة السريعة والحلول الآنية وعدم الصبر على الجراحات العميقة التي تحتاجها البلاد هو المشترك الخفيّ بين المتلقي الأوّل والمتلقي الثاني.
التصويت لأصحاب السرديّة الجديدة سيكشف إرادة الشعب في التغيير، ولكنّ المتلقي هنا لا يريد أن يشارك في الفعل الإبداعي للمستقبل. إنّه في أغلبه قارئ سلبيّ لا يملك ما يكفي من الحماس للكتابة الجديدة لتاريخ البلاد وسرديّتها المغايرة. يتعامل مع الخطاب السياسي الجديد كما يتعامل مع رواية مجدِّدَة. يخافها وينكرها ويجد مذاقها صعبا. صعبا جدّا. إنّها ثقافة السّهل.