( ملاحظات حول الانتخابات )
سيارات فخمة. كتب بورق ثمين للدعاية الانتخابية. شباب ببدلات أنيقة وأحذية لامعة. مقر فخم للقائمة الانتخابية يفوق فخامة البلدية ذاتها. استعراض مشهدي. شراء ذمم تلاميذ بخمسين دينارا للتلميذ الواحد للقيام بالدعاية ولم لا الانتخاب إن سمحت السنّ.
هذه المشاهد لا يتمّ تصويرها ولا نشرها افتراضيا. تراها في الواقع ولا صدى لها في الافتراضي. إنّها قوّة التلاعب في العقول حين تمسك قوى المال بكامل اللعبة.
فما ينشر في الافتراضي هو ما يمرّ حتما بجهاز الدعاية وما يأذن به العقل المدبّر الذي يقرّر حجب ما يريد وكشف ما يريد بل الترويج والتضخيم لما يريد سعيا إلى خلق ردود فعل بافلوفيّة لدى الجميع. إنّه توجيه العقل والتحكّم به ومنعه من خرق حصار الصورة المفروض عليه.
ما يلاحظ هو كثافة الترويج لفيديوهات وصور تتعلّق بقائمات حزبي السلطة وهو أمر يظلّ طبيعيا في ظلّ الغضب الاجتماعي وفي سياق أزمات متتالية لا نرى لها مخرجا قريبا فضلا عن استمرارية الفساد وتعثّر مقاومته وترسيخ صورة السياسي " السارق " الذي نقل للجيل الجديد الذي سيأخذ المشعل فعل " السرقة ". هنا صورة الفتية الذين يقطفون البوصاع من الشجرة والتي التقطت في لحظة ما، لحظة عبث صبياني، تصبح صورة ساسية يتمّ توظيفها توظيفا ماكرا وتبنى عليها مواقف وخيارات انتخابية.
المكر يكمن في توظيف هذه الصور لإلهاء الرأي العام عن تجاوزات أخطر بكثير من مجرّد قطف ثمرة أو وردة أو حتى حمل خروف.
إنّها تجاوزات تتعلّق بقطف ثمرة أحلام شعب كامل. بقتل الأمل في إمكانية التقدّم ولو خطوة نحو الوطن الذي نريد. ففي الافتراضي لا نرى كثيرا مما نرى في الواقع من فخامة الدعاية لبعض القائمات وهي فخامة أثارت أسئلة عديدة لدى المواطنين: من أين لهم هذا؟
حدّثني أحد المواطنين أنّ الكتاب الذي تضمّن برنامج إحدى القائمات " المستقلّة " تمّ طبعه في سويسرا وكلفته تفوق السبعة آلاف دينار. المقر الفخم الذي مررت أمامه مرات تم كراؤه بالملايين أيضا. حدّثني التلاميذ أنّه تمّ دفع 50 دينارا لهم للمشاركة في الحملة الانتخابية لنفس القائمة.
كل هذا يعني أن ما ينشر عن " النخلة " و " الحمامة " ليس سوى الشجرة التي تحجب غابة انتخابية ترتع فيها قوى المال في قائمات عديدة تستعرض قوتها دون حدود ولا قيود وتحت نظر النخلة والحمامة الصامتين صمتا مريبا.
لا أحد يراقب ويحاسب. إنّها الديمقراطية " الفاسدة " التي تنظر بعين واحدة وتغمض عينها الأخرى عن آخرين.
والآخرون كثيرون ولكنّ ما يجمع بينهم هو الرغبة في العودة للإمساك بتلابيب البلديات في إطار استراتيجيا السطو على المؤسسات وهي استراتيجيا يتمّ فيها دفع الشباب إلى الواجهة أما العقول المدبرة فتظلّ في الخلف تنتظر وتوجّه وتسيطر على العملية كاملة. قوى الدّفع إلى الخلف وقوى الفساد تدفع بالشباب إلى الأمام وتجعله واجهتها الجميلة. غير أنّ الواجهة كانت جميلة إلى درجة الشّبهة. هناك مال كثير في صنع كلّ هذا " الجمال " في الواجهة.
الغريب أن بعض قائمات الدّفع إلى الخلف وقوى الفساد لا تكاد تحضر في التشهير الدعائي رغم تجاوزاتها واشتغالها على الفئات المفقرة وفي المناطق الداخلية بنفس الأساليب القديمة حيث يتملّكون بطرقهم المألوفة عروشا بأكملها تمثّل جيشا انتخابيا لهم.. لا نكاد نرى تشهيرا بقائمات دستورية مثلا ولا بقائمات المنظومة القديمة " المستقلة ".
مدارات النقاش والتهكّم والإدانة ظلت بعيدة عن هذه الأحزاب إذ فرضت الصورة على المجتمع مدار النقاش وطبيعته ونوعه فلم يخرج من دائرة حجاب مرشّحة الجبهة الشعبية والسروال الممزّق لمرشّحة النهضة وفرضت زاوية النظر إلى المسألة بحصرها في " النفاق السياسي " رغم أنه يمكن مقاربة الصورة من زوايا أخرى عديدة إيجابية من بينها انتصار ثقافة المواطنة على الإيديولوجيا.
غياب التشهير الدعائي أمر إيجابي لو كان يتعلّق بالجميع على قدم المساواة. فالتشهير يظلّ فعلا مشينا وغير مقبول. لكن حين يتم ّ التركيز على قائمات دون أخرى وحين يتمّ غضّ الطرف عن التجاوزات الحقيقية والتغطية عنها بعبث عفوي وحين ينساق الجميع للتهكّم من هذه الممارسات الصبيانية في الوقت الذي تحدث فيه خروقات كبيرة من قائمات مسكوت عن أفعالها فإنّ الأمر يصبح استراتيجيا ناجحة في التلاعب بالعقول تهدف إلى القضاء على ما تبقى من مكاسب المرحلة.
ما هو مفترض أنّ هناك مال كثير وراء صفحات مشبوهة تتولى إنتاج الصورة والفيديو وتوجّه الرأي العام نحو ما تريد. لذلك لا تفاجـأ حين تصلك فيديوهات وقع النبش عنها وإخراجها من الأرشيف لصناعة حالة " القرف " أو " الخوف " أو " السّخط " ولدفعك إلى مقاطعة الانتخابات أو إلى الارتداد إلى الوراء بعد أن " جرّبنا الجميع ". إنّه الدفع نحو سلوك غضبي جماعي ناقم على كلّ ما يحدث.
وما هو مفترض أنّ ما اصطلح على تسميته ب " الدولة العميقة " المتجدّدة أو قوى الدفع إلى الوراء هي وراء هذا المناخ الخانق الذي يضيّق على كلّ رغبة في تخطي الإرث الثقيل والفساد المستشري.
لا تزعجني صورة الفتاة المحجبة في الجبهة الشعبية ولا صورة الطبيبة في النهضة. هذه حرية فرديّة أحترمها. ما يزعجني عدم إدراك تلاعب هذه القوى بالطبقة الفقيرة والمتوسطة وعدم تمثّل مستويات الصراع الحقيقية في الانتخابات حيث تتقاطع سلطة القديم والجديد وسلطة المال وسلطة الصورة وسلطة الإعلام لتزييف الوعي وإنتاج الوهم الذي سيتمّ بيعه للعقول المستلبة.
ما أرجوه هو أن أجد فتاة الجبهة الشعبية المحجبة وفتاة النهضة السافرة في المجالس البلدية على أن أجد أصحاب البدلات الأنيقة والأحذية اللامعة والسيارات الفاخرة والأموال المشبوهة.
وحده المواطن قادر على أن يغيّر هندسة الخراب التي تسطّر له.
في انتظار ذلك، لا بدّ أن تميل النخلة وتطير الحمامة قليلا كي نرى الغابة الانتخابية كاملة.