" عربيّة الغنوشي "

Photo

يبدو أنّي أعشق طوال عمري " عربيّة الغنوشي " وأنا لا أدري ويبدو أنّي أدرّس نصف عمري عربيّة الغنوشي وأنا لا أدري ويبدو أنّي أكتب نصوصي بعربيّة الغنوشي وأنا لا أدري. نتكلّم ونفكّر ونحلم ونعبّر وننقد ونسخر كما هو الحال في هذا المقال.. نفعل كلّ هذا بلغة الغنوشي ونحن لا ندري. وأخيرا درينا ووعينا والفضل كلّ الفضل لهذا التّحديثي الليبيرالي الذّي أعلنها وسط الملأ : العربيّة لغة الغنوشي.. فكانت " صدمة العربية " التي أفقنا على إثرها مذهولين وقد تجاوزنا نهر التّاريخ.. نحن الذين نتكلّم لغة الغنوشي..

أيّ أسر " تحديثيّ " وقع فيه هؤلاء المغتربون عن لغتهم جعلهم يتّهمون لغتهم بنسبتها إلى " عدوّهم " الإيديولوجي؟ وأيّ زنازين يقيم فيها هؤلاء تحوّلهم إلى كائنات غريبة عن لغتهم وثقافة شعوبهم؟ وأيّ حقد يمنعهم من رؤية الحقيقة؟

أن يقول أحدهم: العربيّة لغة الغنوشي كأن تقول هيلاري متّهمة: الانقليزيّة لغة ترامب أو كأن يقول هولاند مثلا: الفرنسيّة لغة ساركوزي؟؟

فأيّ كوميديا ساخرة هذه؟

في البدء كانت العربيّة.. قبل أن ترحل فرنسا مخلّفة وراءها نخبتها اللّيبيراليّة المتفرنسة المغتربة الفاقدة للرّؤية الوطنيّة العميقة لمسألة الثّقافة في تونس، وقبل أن تطمئنّ على مصير فرنسيتها التي دافع عنها ممثّلوها في تونس وكانوا في دفاعهم ملوكا أكثر من الملك فأنتجوا أجيالا تمجّد الفرنسيّة وتحتقر العربيّة والانتماء العربي. لقد نجحوا في ما لم تنجح فيه فرنسا التي قاوم الوطنيون فترات الاستعمار مساعيها لطمس الهويّة العربيّة ومحاولاتها الجادّة لإرساء الفرنسيّة لغة بديلة.

في البدء كانت العربيّة التي نطق بها شاعر تونس أبوالقاسم الشابي بيته الأجمل وقصيدته الأجمل التي لا يحفظ أبياتها هذا التحديثي كما لا يحفظ القرآن بما أنّه ينطق بلغة الغنوشي. العربيّة التي كتب بها الزّيتوني التّنويري الطّاهر الحدّاد كتابه التّحديثي: امرأتنا في الشّريعة والمجتمع. لعلّ هذا التحديثي لم يقرأ لهذا الزّيتوني التحديثي الذّي أنجز ثورة تحديثيّة. لم يقرأ له لأنّه كتب بعربيّة الغنوشي.

في البدء كانت العربيّة .. فقد أثبتت الدّراسات الاجتماعيّة أنّ علاقة التونسي بالعربيّة قبل 1881 كانت طبيعيّة بل " حميميّة " وهو ما يؤكّد أنّ نبذ العربيّة لدى صاحب هذا الموقف هو من استتباعات علاقة " المغلوب بالغالب " وفق التّعبير الخلدوني التي أنتجت هذا الاغتراب عن اللغة لدى أصحاب هذا الصفّ اللّيبيرالي الحداثوي الذين صاروا يتوهّمون أنّهم الغالب في ضرب من التقمص لشخصيّة الكولونيالي وأنّ المتعرّبين هم المغلوب غافلين عن أنّ السّيادة الحقيقيّة هي السيادة اللغويّة. الدّستور التونسي يقول إنّ اللغة العربيّة هي اللغة الوطنيّة. أن تكون سيّدا في وطنك يعني أن تتكلّم لغتك الوطنيّة أوّلا ( قد نكون أشدّ انفتاحا منه على بقيّة اللغات ) وأن تعتزّ بذلك وأن لا تعتبر الفرنسيّة " تعبّر خير " وأن لا يقودك حقدك الإيديولوجي إلى أن تعتبر العربيّة لغة تابعة لعدوّك فهذا يحسب له لا عليه.

في البدء كانت العربيّة.. فقد أثبتت أيضا الدّراسات الاجتماعيّة أنّ واحد بالمائة فقط في تونس يتكلّمون الأمازيغيّة رغم كلّ محاولات إحياء هذه اللغة. لقد ذابت لغة أجدادنا الأمازيغ في بوتقة الحضارة العربيّة الإسلاميّة التي مثّلت مزيجا ثريّا لتقافات مختلفة ومنصهرة.

غربة اللّغة في وطنها رغم كلّ هذا هي نتيجة المحافظة على الإرث اللغوي الثقافي الفرنسي. كان ذلك خيارا ولم تجد النّخبة حرجا في إبقائه بل اعتبرته مظهر تحديث ضروريّ وفق رؤية تحديثيّة اتّخذت من فرنسا / الاستعمار نموذجا للحداثة وحضارة للتّنوير والتحرّر من الرجعيّة . ورغم محاولات التّعريب الجادّة التي قام بها أعلام وسياسيون مثل الأستاذ محمد مزالي والأستاذ محمد اليعلاوي وغيرهم إلّا أنّ العربيّة ظلّت غريبة بعد أن حافظت الفرنسيّة على سطوتها لدى النّخبة المهيمنة ولدى أطراف من اليسار أنكروا الهويّة العربيّة الإسلاميّة للشّعب التونسي وانقادوا في خضمّ معارك الهويّة المضخّمة وراء التيّار الحداثوي المغترب.

وظلّت العربيّة في اللّاوعي الجماعي رمزا ثقافيّا للنّقص والدّونيّة والتأخّر الحضاري تثير الخجل لدى البعض ويتضاءل استعمالها خاصّة لدى أقليّة فرنكفونيّة ما فتئت تضع انتساب التّونسيين إلى الهويّة العربيّة الإسلاميّة موضع شكّ. وهي رغم كونها أقليّة وبعيدة عن طبيعة المجتمع وخصائصه إلّا أنّها تتحكّم في تصوّرات التّعليم والثّقافة وفي برامجه وتحتلّ مؤسّساته وتنفرد بتسييرها وهو ما أنتج ارتباكا في الشخصيّة التّونسيّة يصل درجة الانفضام والتشظّي الذّي نتبيّنه في ممارسات وسلوكيّات عديدة.

إنّ غياب تصوّر بديل لثقافة وطنيّة وبقاء " الجالية " التونسيّة التابعة لفرنسا لدينا مهيمنة على القرارات وتمدّد العدوانيّة ضدّ من يختلفون معهم في الرّأي يجعل العربيّة في هذا الوطن الذّي لا سيادة حقيقيّة لديه على ثرواته ولا استقلاليّة حقيقيّة لديه في قراراته ولا تصوّر وطني حقيقي لاقتصاده، يجعل منها عربيّة تشبه الإنسان وتشبه الدّولة: هي هنا وليست هنا، داخل التّاريخ وخارجه، مستعمرة متحرّرة، قديمة جديدة، داخل العصر وخارجه.. لا تكون اللغة قويّة إلّا بقوّة اقتصادها وعلمها ونخبتها..

في البدء كانت العربيّة.. كتب بها اليساري حنّا مينا والفلسطيني جبرا ابراهيم وعبد الرّحمان منيف وغسّان كنفاني ومحمود درويش وادوارد سعيد أجمل الرّوايات والقصائد والدّراسات والمؤلّفات العالميّة وقال بيكاسو عن خطّها: لقد أردت أن أصل إلى أعلى نقطة بلغها الخطّ العربي ولم أصل.

وقد تشغف حبّا بالفرنسيّة ولكن وأنت تكتب بها تكتب بروحك العربيّة عن هويّتك التي تعيش مخاضها وتحوّلاتها ولكن لا تفقد ثوابتها. تتطوّر ولا تتيه. ندرك آنذاك أنّ المعضلة ليست في العربيّة، وليست في أن تكتب بالعربيّة أو بلغة أخرى.. بل في من يفكّرون بالعقل الاستشراقي المقزّم للعربيّة وللحضارة العربيّة والذّي قال عنه ادوارد سعيد في ردّه على الاستشراق بأنّه: " تحيّز مستمرّ وماكر من دول مركز أوروبا ضدّ الشّعوب العربيّة الإسلاميّة "

هذه هي التي سمّيتها باطلا: " عربيّة الغنوشي ".. ما أجملها

ماذا؟ لا لا

لست غنوشيّة المذهب أو الهوى

أنا فقط عربيّة الهوى.. عاشقة للغتي العربيّة.

هل تعرف العشق العربي؟ ؟

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات