الدكتور المنصف المرزوقي ينسحب من العمل السياسي. عرفت الدكتور في تجربة صغيرة حين كلّفني بعمل ثقافي. ولم يكن يعرفني ولكنّه كان يتابع مقالاتي التي تنشر في جريدة الزراع وكان يناقشني بعضها وأذكر أنّه عبّر عن إعجابه مرّات بنصوص كتبتها.
أذكر كلّ اللقاءات بالدكتور المرزوقي ولا يمكن أن أنسى قوّة الحلم لديه إلى حدّ الانفعال الشديد. لقد كان يريد أن يرفع الوطن بقوّة إلى أعلى وكان الألم شديدا لديه وهو يراه ينحدر كلّ مرّة. وأذكر أنّه صرخ فيّ مرّة بسبب ما عاينه من تخاذل بعض المثقفين الذين عوّل عليهم في الدّفاع عن الثورة. كانت خيبته شديدة. وانفعاله أشدّ.
وأذكر أنّ رفاقي قالوا لي إنّهم رأوا الدّمع في عينيّ. ولم أقل شيئا. ولكني أدركت آنذاك وبعد تجربة ثلاثة أشهر عملت فيها مع الفريق ليلا نهارا أنّه الأفضل أن أنسحب. وانسحبت مع مجموعة من أصدقائي بصمت.
وأذكر في لقاء الانسحاب أنّه أوصاني بمحبّة قائلا: لا تعتقدي أنّ أجواء المثقفين أفضل.. إنّها أكثر عفنا. كان رجلا نبيلا وصادقا وحقيقيا. إنسانا بكلّ أحلامه وأخطائه، بكلّ قسوته على نفسه وعلى الآخرين، بكلّ أناه التي تحاصره، وتؤذيه، كان الطبيب الذي يقبل على الجراحات الموجعة على إيقاع سمفونية ضربات القدر لبيتهوفن، تماما كما في كتابه: الطبيب والموت، وهو يحاصر الورم السرطاني في رأس الفتاة الجميلة.
الآن وأنا أصغي إليه في خطاب الانسحاب، متعبا ومنفعلا، رأيت الدمع في عينيّ مرّة أخرى. لقد أبكاني مرّتين. ولكني تعلّمت معنى أن تكون إنسانا.